في مقابل حملة التخويف من الآثار الاقتصادية السلبية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، التي تندرج في سياقها توقعات مؤسسات مالية، على رأسها صندوق النقد الدولي، يُقدّم اقتصاديون مؤيدون لخروج لندن من الاتحاد توقعات إيجابية في حال تحقق مرادهم، أقله على المديَين المتوسط والطويل. في هذا الإطار، يقول وزير العدل البريطاني، مايكل غوف، إن «هناك مخاطر اقتصادية في حال الخروج، لكن ثمة مخاطر أيضاً اذا بقينا. ينبغي أن يصوّت الشعب من أجل الديمقراطية والأمل».لكن ثمة من يتساءل، في ظل السياسة الاجتماعية ــ الاقتصادية التي تتبعها كل من لندن وبروكسل، إن كان أصلاً ثمة فسحة لـ«الديموقراطية والأمل» في بريطانيا وأوروبا عامة، مهما كانت نتيجة الاستفتاء البريطاني يوم غد.
اذا صوتت أكثرية البريطانيين للخروج من الاتحاد (وهو ما يُختصر بعبارة بريكست)، فإن ألمانيا «ستقف وحدها أمام السياسات السخية لبلدان البحر الأبيض المتوسط، التي تفضل إعادة التوزيع، حيث يجب علينا تقديم مدفوعات لها. ومن هنا ينطلق الخوف الكبير»، وفقاً لما نقلته «دويتش فيله» عن المحلل الاقتصادي من معهد «بروغل» في بروكسل، غونترام فولف، الذي يشير إلى خسارة ألمانيا المحتملة لشريكتها في اتباع سياسة «التوازن» المالي والنقدي، وفرضها على الدول الأخرى (داخل الاتحاد وخارجه)، على حساب الإنفاق الاستثماري والاجتماعي. وفي السياق نفسه، يقول عضو مجلس اللوردات البريطاني، مارتين كلانان، «نحن البريطانيين لنا مواقف مشتركة مع برلين في القضايا الاقتصادية، عندما يتعلق الأمر بحرّية التجارة ونهج السياسات الصارمة في الميزانية»، مضيفاً أن بلاده وألمانيا «تمثّلان قيادتين في شمال أوروبا أكثر فأكثر، فيما تتوجه زعامة فرنسا نحو جنوب أوروبا»، مع «توجه دولتها التدخلي» في الاقتصاد.
بريطانيا شريكة كاملة لألمانيا في فرض السياسات التقشفية أوروبيا

يتحدث كلانان عن التزام بريطانيا سياسات «التشقف» و«الإصلاح الهيكلي» التي أدت إلى اتساع الهوة في الثروة والمداخيل ليس فقط بين دول الشمال الأوروبي ودول جنوب القارة، بل أيضاً في داخل هذه الدول. فُرضت السياسات تلك على الدول الأوروبية المدينة (كاليونان وإسبانيا وإيرلندا) بطرق غير ديمقراطية على الإطلاق، بل عبر الضغوط السافرة و«الإبتزاز»؛ وإن كان تبني هذه السياسات قد جرى في بريطانيا وألمانيا عبر أساليب مشكوك في ديموقراطيتها، فمن المؤكد أن نتائجها في أوروبا قاطبة لم تخدم «الدمقرطة»، بل أدت إلى «تفكيك الآليات التي تقلل من اللامساواة وتحفّز النمو العادل»، بحسب تقرير منظمة «أوكسفام» حول آثار سياسات «التشقف»، صدر في أيلول من عام 2013. جاء في التقرير هذا أنه «مع تفاقم اللامساواة والفقر، تواجه أوروبا عقداً ضائعاً، (حيث) يمكن أن يواجه 15 إلى 25 مليون شخص إضافي في أوروبا إحتمال الفقر عام 2025، إذا ما استمرت سياسات التقشف». وتشير المنظمة في تقريرها إلى «التشابه الكبير بين سياسات الإصلاح الهيكلي (في أوروبا، وبين تلك) المفروضة على أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا وأفريقيا ما دون الصحراء في عقود الثمانينات والتسيعينات»، التي سعت إلى «شفاء المرض عبر قتل المريض».
وكما في السياسة المالية (الجباية والإنفاق)، فإن توحيد السياسة النقدية باعتماد العملة الموحدة قد أتى بنتائج معاكسة للأهداف المعلنة عند إطلاق اليورو. وسبق للبنك المركزي الأوروبي أن أقر بهذا الاتجاه العام، قائلاً إن الفجوة بين الدول الأضعف والأقوى في منطقة اليورو تتسع بدلاً من أن تضيق. وأظهرت دراسة أعدتها شركة «فلوسباخ فون ستورخ» الألمانية لإدارة صناديق الاستثمار، نُشرت مطلع الشهر الجاري، أن فجوة الثروة في منطقة اليورو تزداد. فاحتساب سلة عناصر تشمل العقارات والأسهم والفنون والنبيذ الفاخر، بيّن أن الثروة في ألمانيا والنمسا قفزت أكثر من 7% في نهاية عام 2015، مقارنة بالفترة نفسها قبل عام، بما يعادل ضعفي معدل النمو في إيطاليا وإسبانيا، فيما انخفضت ثروة اليونانيين بأكثر من 4%.




التعويل على الجنوب لتغيير أوروبا

حتى إذا غابت بريطانيا عن مركز صنع القرار في الاتحاد الأوروبي، فإن أدوات النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة تبقى حاضرة لتدعم «بيروقراطيي بروكسل»، غير المنتخبين ديموقراطياً، في إعلائهم إرادة رؤوس الأموال على المصالح والإرادات القومية، خاصة في دول جنوب القارة، حيث سبق أن أسهم صندوق النقد الدولي في قمع تمرّد الشعب اليوناني على إملاءات الدائنين الأوروبيين.
في هذا الإطار، يصعب تخيّل تغيير ما في النموذج الاقتصادي ــ السياسي للاتحاد الأوروبي من بوابة دول «الشمال»، عبر خروج بريطانيا مثلاً، على الأقل في المستقبل المنظور. رغم كثرة الحديث عن أن «صدمة البريكست» قد تكون مقدمة لانهيار الاتحاد، يشير محللون إلى أن زلزالاً كهذا لا بد أن ينجم عن تمرّد دول «الجنوب»، المتضررة من السياسة الاجتماعية ــ الاقتصادية التي تفرضها بروكسل، على النظام الأوروبي.
لكن حتى مع رسوخ بريطانيا في موقعها في هذا النظام العالمي، كشريك تابع للولايات المتحدة، تصرّ واشنطن على أن لندن هي أكثر فائدة لها داخل الاتحاد. لذلك، ألقى صندوق النقد الدولي بثقله لدعم حملة البقاء في الاتحاد. ونهاية الأسبوع الماضي، في تقويمهم السنوي المالي للاقتصاد البريطاني، قال «خبراء» الصندوق إن خروج بريطانيا من الاتحاد له أثر «سلبي وكبير» على اقتصادها، حيث سيؤدي إلى «فترة طويلة من عدم اليقين، الذي قد يؤثر بالثقة والاستثمار ويزيد من تقلب أسواق المال، إذ إن المفاوضات حول شروط جديدة (للتبادل مع الاتحاد) قد تستمر سنوات».