لطالما اعتُبرت بريطانيا الابن العاقّ ضمن المجموعة الأوروبية وموضع شك دائم في ما يتعلق "بولائها" الأوروبي. أبرز المعترضين التاريخيين كان الجنرال ديغول الذي رفض على مرتين انضمام بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة عامي 1963 و 1967.العلاقة "الملتبسة" مع أوروبا لا تلغي أهمية بريطانيا أوروبياً وحاجة الطرفين المتبادلة لبعضهما البعض. صحيح أن كلا الطرفين في بريطانيا، المؤيدين للبقاء في الاتحاد والمعترضين يتسلحان بحجج وأرقام تصبّ في مصلحة كل منهما، إلا أنه بالإجمال لا يمكن تجاهل بعض المعطيات والسيناريوهات التي لا مفرّ منها والتي قد تنعكس على المملكة المتحدة وشكلها الجغرافي الحالي، وعلى أوروبا كقارة أولاً وكمؤسسات ضمن الاتحاد الأوروبي وعلى العلاقات الدولية ككل.
عام 1962 قال وزير الخارجية الأميركي المتقاعد دين آشسون إن "بريطانيا العظمى فقدت إمبراطورية ولم تجد حتى الآن دوراً لها". وأكمل: "إن أي محاولة لبريطانيا للعب دور منفصل عن أوروبا، بالاستناد إلى العلاقة الخاصة التي تربطها بالولايات المتحدة الأميركية، وكونها تتزعم الكومنولث ستكون محاولة منهكة". اليوم بعد 54 عاماً على هذه المقولة وبعد قرابة 41 عاماً على انضمام بريطانيا للمجموعة الأوروبية يعود النقاش إلى ما إذا كان يفضل بقاء بريطانيا "مشكوكاً بأمرها" ضمن المجموعة الأوروبية أو بريطانيا خارج المجموعة؟

اتحاد ودول في خطر

على الرغم من أن المادة 50 من اتفاقية لشبونة لتأسيس الاتحاد الأوروبي تحتوي على نص يتعامل مع احتمال خروج أحد أعضاء الاتحاد، إلا أن خروج بريطانيا سيشكل سابقة في تاريخ الاتحاد. خروج بريطانيا بالمختصر سيشكل ضربة قاصمة "للفكرة الأوروبية" ومسيرتها نحو الاندماج والتوسع في المستقبل، وسيُعَدّ انتكاسة وخطوة كبيرة إلى الوراء.
المخاوف تتعدى الإطار النظري و"الفكري" البحت لتطاول مستقبل الاتحاد الأوروبي كمنظمة ومؤسسات. اليمين المتطرف الآخذ في التمدد في أوروبا والمشاعر القومية الانعزالية ستستفيد إلى أقصى حد من خروج بريطانيا، لكون أحد الملفات الشائكة الأساسية والذي يتصدر عناوين الداعين إلى الخروج هو ملف تدفق المهاجرين الذي يعتبر مادة خصبة لليمين المتطرف.
على صعيد المملكة المتحدة، أي تصويت سلبي سينعكس حتماً على وحدتها ويعيد على جدول البحث المسألة الإسكتلندية. الخروج المحتمل لبريطانيا يمكن أن يؤدي إلى مطالبة اسكتلندا بالاستقلال، خاصة أن عضوية بريطانيا في الاتحاد كانت أحد أهم الأسباب التي أدت إلى فشل الاستفتاء بشأن استقلال اسكتلندا عام 2014.
المعضلة الإيرلندية الشمالية قد تعود إلى الواجهة في ضوء التصريحات والمواقف المعلنة حتى الآن بين المؤيدين للاتحاد مع بريطانيا والمطالبين بالانضمام إلى جمهورية إيرلندا.

جزيرة في محيط

خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيفقدها فرصة قيادة أوروبا، حيث إن الكثير من الدراسات يشير إلى أنه في منتصف القرن الحالي ستتخطى بريطانيا ألمانيا من حيث عدد السكان والقوة الاقتصادية، وستصبح القوة العسكرية الأقوى في الاتحاد.
مقارنة بسيطة للأرقام تبين الفرق ما بين بريطانيا وحيدة وبريطانيا ضمن السرب الأوروبي. يشكل عدد سكان المملكة المتحدة أقل من 1% من عدد سكان العالم، وتُسهم بنحو 3% من إجمالي الناتج المحلي العالمي. أما على الصعيد الأوروبي، فيشكل سكان المملكة المتحدة ما نسبته 12.5% من سكان الاتحاد، وتُسهم بنحو 14.8% من اقتصاد الاتحاد. إضافة إلى ذلك، تمثل الصادرات البريطانية 19.4% من حجم صادرات الاتحاد الأوروبي. بطبيعة الحال، تبين الأرقام أيضاً مدى تأثر الاتحاد سلباً في حال خروج بريطانيا.
أي خروج محتمل سيدفع بريطانيا إلى توقيع معاهدات تجارية ثنائية مع بقية الدول من حول العالم، وربما مع دول الاتحاد إلى حين بلورة صيغة التعاون ما بين الطرفين، ما سيضعها في موقف أضعف تفاوضياً، وهو ما عبّر عنه الرئيس الأميركي أوباما، حين أشار إلى أن الولايات المتحدة غير مهتمة بمفاوضات تجارية ثنائية، وأنه في حال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فإنها ستضطر إلى الانتظار في آخر الصف.
كذلك ستفقد بريطانيا القدرة على التأثير بسياسات الاتحاد، وستضطر إلى التعامل مع ما يصدر عنه من مقررات بدل العمل من الداخل لمحاولة تغليب وجهة نظرها، وهو ما نجحت بالقيام به في الكثير من المرات، سواء بالاقناع أو بالابتزاز.
لكن يبقى السؤال إن كان بمقدور الاتحاد التعاطي مع بريطانيا ككتلة واحدة، أو أن الانقسامات التقليدية بين الدول الأعضاء ستطفو على السطح، خاصة أن التجربة بينت في الكثير من الأحيان غلبت المصالح الخاصة على مصالح الاتحاد ككل.

اتحاد أضعف

في ظل تنامي قوة الصين وعودة روسيا تدريجاً وبشكل سريع إلى الساحة الدولية كلاعب مؤثر وفعال، وصعود الهند والبرازيل، سيؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى إضعاف موقع الاتحاد تجاه كل من هذه الدول. وفي هذا الإطار قالت رئيسة مكتب المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في برلين، آلموت مولير، إن خروج بريطانيا من الاتحاد سيكون إشارة إلى العالم، بما فيه روسيا والصين، إلى تفكك الاتحاد الأوروبي.
من الناحية العسكرية، سيفقد الاتحاد إحدى ركيزتيه العسكريتين، أي بريطانيا وفرنسا. يبقى التعاون ممكناً من ضمن حلف شمال الأطلسي، إلا أن خروج بريطانيا سيضرب في الصميم أي إمكانية بحث جدي وعملي لخلق هيكلية عسكرية خاصة بالاتحاد في ظل الضوابط الداخلية والدولية التي تحدّ من قدرة ألمانيا على هذا الصعيد.
لن تسلم المؤسسات الأوروبية من الخروج البريطاني. ستغوص دول الاتحاد في مفاوضات شاقة لإعادة البحث في الطريقة المعتمدة للتصويت لاتخاذ القرارات في مجلس الاتحاد الأوروبي، وإعادة توزيع المقاعد والحصص في البرلمان الأوروبي، وزيادة في الميزانية المفروضة على كل دولة لتعويض مساهمة بريطانيا الضخمة السنوية التي تقدر بنحو 15 مليار دولار. وبحسب البروفيسور المختص بالسياسات الأوروبية آناند مينون، فإن هذه المفاوضات ستلهي الأوروبيين عن التركيز على مواضيع أساسية كالأزمة السورية وروسيا ومسألة المهاجرين. إلا أنه بحسب مينون، سيشكل خروج بريطانيا الصدمة التي كان يحتاجها الاتحاد لإصلاح نفسه وإجراء تغييرات جذرية.
أما من حيث توزيع القوى ضمن الاتحاد، فالخروج البريطاني سيزيد من الهيمنة الألمانية وتأثيرها، ويؤدي إلى توجيه محور الاتحاد نحو الشرق حيث الثقل الألماني التقليدي. وفي ضوء التشديد الألماني على النواحي الاقتصادية في علاقاتها مع باقي الدول الأعضاء، يتوقع أن يطغى الجيو اقتصاد على الجيوسياسة.
خروج بريطانيا أو بقاؤها في الاتحاد الأوروبي يحمل سلبيات وإيجابيات، هي محور النقاشات في بريطانيا لمحاولة ترجيح كفة على أخرى. الأكيد أن الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وشكل العلاقات الدولية لن يبقى بحده الأدنى على ما هو عليه في حال خروج بريطانيا. يبقى للأيام أن تبين مدى السلبيات والإيجابيات.