يمكن القول إنه بعد خروج توني بلير من رئاسة الوزراء (1997 ــ 2007)، أصبح أثرى مما كان عليه، وبات صاحب نفوذ وتأثير عبر شبكة علاقات دولية قد تكون أكبر من المملكة المتحدة نفسها. وبرغم من أنه لا يزال لاعباً مهماً في منظومة السياسة البريطانية إلى اليوم، فإن تقرير شيلكوت يفتح باباً واسعاً لتقييم إرثه السيئ الذكر، من خلال دوره في مأساة "إسقاط العراق".ولعلّ إخفاق توني الأكبر، الذي سيذكره التاريخ، هو من دون شك دوره في غزو العراق. لم يعد سراً أنه تآمر مع جورج بوش لأسباب أيديولوجية محضة، بهدف شن حرب لإسقاط نظام حكم صدام حسين، وذلك في اجتماعات غامضة. وقد دفع أركان سلطته إلى إطلاق إدعاءات كاذبة تتناغم مع ادعاءات "السيد الأميركي". وهو في حملة الخداع المنظمة تلك، تجاوز القوانين وداس توجهات الشارع البريطاني، وانتهى شريكاً في "جريمة هولوكست" أميركية. دمّر العراق والعراقيين، بل وقدّم نموذجاً على الإخفاق المطلق لإدارة المناطق الواقعة تحت الاحتلال بعد انتهاء "الأعمال الحربية".
لكن، ماذا يفعل توني منذ عام ٢٠٠٧ عندما خسر الصراع الداخلي مع غريمه في حزب العمال، غوردن بروان، واضطر إلى ترك منصبه؟ لقد تحول ببساطة إلى "تاجر شنطة" يتجول على نطاق دولي لمقابلة كل ديكتاتور فاسد: من كازاخستان إلى نيجيريا، مروراً بالخليج الفارسي. لقد درّت عليه تجارته ملايين الجنيهات وحولته إلى ثري معتبر في بلاد لا يتجاوز فيها راتب رئيس الوزراء الـ١٥٠ ألف جنيه إسترليني في العام الواحد. بضاعته؟ "توني يبيع توني": خبرته في الحكم، شبكة نفوذه وعلاقاته وقدرته على فتح الأبواب المغلقة، مستفيداً من شبكة علاقات غامضة تجعله قادراً على الاتصال بأي ملك أو أمير أو إنقلابي من هاتفه الشخصي المحمول.
لعلّ سلوكه المخادع جعله يتحوّل إلى مثال كلاسيكي على كذب السياسيين

ليس ذلك فقط، فهو يمكن أن يبيع أشياء أخرى، مفيدة ربما، لكن دائماً مقابل عمولة مجزية. يروي توم بووير في سرده لسيرة توني (توني بلير: تراجيديا السلطة، الصادر عن دار فابر) أنه كان في اجتماع مع الجنرال بخاري، الرئيس النيجيري، يحاول بيع فكرته العقيمة لتأسيس "فريق تسليم" يتولي تحقيق أهداف البيروقراطية الحكومية تاركاً لأصحاب المناصب الفرصة للتركيز على الجوانب الأيديولوجية والسياسية، وربما التجارية. فجأة طلب توني من جميع مساعديه ومن مساعدي الرئيس النيجيري مغادرة غرفة الاجتماعات لأن لديه رسالة من رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، وأنه يجب أن يبلغ الجنرال بها على انفراد. استغل بلير ذلك الوقت لإقناع الجنرال بشراء طائرات من دون طيار وأسلحة أخرى متقدمة تنتجها الصناعات العسكرية الإسرائيلية!
تولى توني بلير، باسم حزب العمال، السلطة في المملكة المتحدة لعشر سنوات، لكنه كان نيوليبرالياً في سياساته أكثر مما قد تجرؤ عليه أي حكومة محافظة، أو حتى ميلتون فريدمان نفسه. لقد كانت البليرية في السلطة التباساً أيديولوجياً، وفشلاً عملاتياً. النظرية الوحيدة التي يمكن قبولها عن أداء بلير في السلطة هي قدرته الهائلة على تسويق نفسه من خلال التحكم الدقيق في صورته في الإعلام الغربي الذي يهيمن على غالبه اليمين الرأسمالي. وهو عند تورطه في "الأزمة العراقية" مثلاً، نُقل عنه أنه قضى وقتاً في قراءة القرآن "في محاولة منه لفهم الشرق الأوسط"، وهو وقت، كما يقول كاتب سيرته، "كان من الأفضل لو قضاه في الاطلاع على تقارير الخبراء وإرشادات الخارجية والمخابرات"، لكن الرجل يعاني قصورا في النظرة التاريخية وانعدام الغاية باستثناء التسويق المكثف لـ"توني".
لعلّ سلوكه المخادع جعله يتحوّل إلى مثال كلاسيكي على كذب السياسيين. فهو يدّعي أنه إلى جانب تجارته في أفكاره (الفاسدة، ومعها بعض الأسلحة الإسرائيلية)، فإنه يثير موضوعات حقوق الإنسان مع مستضيفيه. حقوق الإنسان؟ السعودية؟ كازاخستان؟ نيجيريا؟ لا عجب، فهذه عيّنة عن "توني". مهارته الأهم، كما يقول الموظفون الذين عملوا معه، هي في تجنب العمل الشاق، وتجنب الإجابة عن الأسئلة، وتجنب الالتزام بالقوانين. في دورات التدريب الإدارية لكبار التنفيذيين في الشركات، يُضرب توني بلير مثالاً على أفضل الطرق لتجنب الإجابة عن الأسئلة المحرجة.
في لندن، يقول بعض المراقبين إن تجربة توني بلير وحدها كفيلة بشرح إصرار البريطانيين على إبقاء المحافظين في السلطة لعشر سنوات متتالية برغم كل سياساتهم القاسية، أو بمعنى آخر: "لقد شوّه بلير سمعة حزب العمال إلى الأبد".
قد يكون توني بلير وجهاً بريطانياً لنموذج "السياسي ما بعد الميكافيللي" الذي يمثله آل كلينتون على الجانب الآخر من الأطلسي. لقد حدث وتقاطعت خطوط الطرفين في محاولة كل منهما الوصول إلى مجموعة الزبائن نفسها من المستهدفين من حكام العالم الفاسدين، لكنهما نجحا في ما يبدو في بناء علاقة تعاون تكاملي بدلاً من الدخول في منافسات مباشرة حادة. وهكذا توسط بيل، زوج هيلاري، لتوني مع المليونير المعروف ريتشارد برانسون، الذي استمع لنصائحه لكنه لم يدفع له قرشاً واحدا سوى تكلفة الإقامة المجانية في منتجع يمتلكه برانسون. برانسون ليس مغفلاً بالطبع ليشتري القمامة التي يوزعها بلير.
لا يكتفي توني من الأموال ومن التخريب، إذ استباقاً منه لصدور تقرير شيلكوت، سعى إلى تنظيم انقلاب فج من خلال فريقه القديم في يمين حزب العمال المعارض، وذلك بهدف إسقاط جيريمي كوربن زعيم الحزب، الذي كان قد توعد بالعمل على تقديم بلير للمحاكمة.
إذن، توني متعدد الأوجه، بائع الأوهام، صديق الحكام الفاسدين وخادم الإمبراطورية الأمين، قد يحوز أخيراً لقبا جديدا، وهذه المرة بحكم المحكمة التي تأخرت كثيراً كما تفعل العدالة دوماً: مجرم حرب، لا أقل.