بروفينزانو يرحل من دون أن يتكلم: «مافيا كورليوني» تفقد العرّاب الشبح

  • 0
  • ض
  • ض

رحل آخر زعيم كلاسيكي لمافيا «كورليوني» التي ألهمت أعمال ماريو بوزو الشهيرة، في مستشفى سجن ميلان عن ٨٣ عاماً. بغياب بيرناردو بروفينز، تطوى، ولو رمزياً، مرحلة من مراحل تطور المافيا الإيطالية وتداخلها مع السياسة والاستخبارات وصناعة التاريخ في النصف الثاني من القرن العشرين

لندن | في منتصف الأسبوع الماضي، مات بيرناردو بروفينزانو (١٩٣٣ ـ ٢٠١٦)، وهو آخر عرّابي مافيا كورليوني الإيطالية، في السجن، في ميلان شمال إيطاليا، عن ثلاثة وثمانين عاماً.

كان الكاتب ماريو بوزو قد صاغ ثلاثيته الأشهر في تاريخ أدب المافيا (العرّاب)، التي تحولت إلى أفلام عالمية، مستلهماً نشاط هذه المجموعة الإجرامية التي حكمت جزءاً كبيراً من صقلية فعلياً عبر السنين، برغم تغير الدول والحكومات في روما.
بيرناردو، الدون «الحقيقي» لعصابة كورليوني، عاش حياة أهم بكثير مما حاولت حتى رواية ماريو بوزو تصويره على أنه سرد سيرة زعيم مافيوي آخر. فالرجل بقي مطارداً لثلاثة وأربعين عاماً وهو لا يزال على رأس عمله، من دون أن تنجح السلطات في القبض عليه، فأطلِق عليه لقب «الشبح». ولما قبض عليه في النهاية، تبيّن أنه كان يعيش ويعمل دوماً في نطاق يقلّ عن ميل واحد من مكان ولادته في كورليون. هو اشتهر أولاً بـ«التراكتور» لقسوته مع أعدائه، من محققين وصحافيين وضحايا آخرين، وبعد ذلك عرف بـ«المحاسب» لدقته العجيبة في إدارة أموال المجموعة، وخصوصاً عندما تولى قيادة المافيا في الفترة الانتقالية في بداية التسعينيات، أي في وقت التحول من نشاط المخدرات وتفاهات جرائم الشارع إلى العمل في النصب على مستوى عال عبر النظام الرأسمالي (جرائم الياقات البيضاء كما تعرف في أوروبا).
كاد بيرناردو أن يدفع شر أعماله بعدما اتُّهم بإحدى جرائم القتل في ١٩٦٣، لكن البوليس الإيطالي أخفق في القبض عليه حتى عام ٢٠٠٦، ما أثار تساؤلات كثيرة في الأوساط الشعبية في صقلية حول الجهة التي قد تكون وفرت له الحماية من الاعتقال خلال كل تلك المدة. وعرف في ما بعد أنه كان يتنقل لحضور اجتماعات العمل التي يعقدها في سيارات إسعاف، وأنه أدار نشاطاته من فيلا فخمة بنيت في القرن الثامن عشر قريباً من مسقط رأسه.


كان بيرناردو حليفاً للاستخبارات الأميركية في ثمانينيات
القرن الماضي

أقوى التكهنات تقول إن بيرناردو كان حليفاً للاستخبارات المركزية الأميركية في الثمانينيات من القرن الماضي، وسط استمرار العملية السرية الضخمة التي نفذتها الوكالة في إيطاليا (ودول أوروبية أخرى) تحت الاسم الكودي «جلاديو» لعقد من السنوات، قبل الكشف عنها من قبل القضاء الإيطالي.
كانت «جلاديو» تمثّل منظومة تنسيق سري للعمليات بين قوى الظلام في المافيا والاستخبارات الأميركية، استهدفت ضمان استمرار اليمين الإيطالي في السيطرة على البلاد في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفي ما يبدو، فإن مشاركة الحزب الشيوعي الإيطالي الفاعلة في إسقاط «حكم الفاشيست» كانت قد أثارت مخاوف الأميركيين من احتمال تحول دول أوروبا الغربية التي دمرتها الحرب إلى حكم اليسار وامتداد نفوذ الاتحاد السوفياتي إلى ضفة الأطلسي، فبنت شبكة محكمة من المتآمرين استفادت على نحو متزايد من قدرة المافيا الفائقة على إدارة الحسابات السرية ونقل الأموال والأسلحة وتنفيذ العمليات القذرة، من إسقاط الطائرات العسكرية في حوادث غامضة إلى السيارات المفخخة، وذلك في ظل جزء رئيسي من المؤسسة الرسمية الإيطالية. وتقول بعض التقديرات إن «شبكة جلاديو»، في مرحلتها الأولى على الأقل، كانت تضم (في إيطاليا وحدها) ما لا يقل عن ثلاثة ملايين متعاون، وقد خصصت لدعمهم موازنات بمئات ملايين الدولارات.
بدأ بيرناردو حياته في عالم الإجرام منذ أيام مراهقته، وهو تورط في أعمال عنف وطاردته عائلات المافيا الأخرى في صقلية، لكنه لم يهرب وأظهر صلابة وشجاعة نادرتين أهّلتاه ليكون ضمن فريق النخبة المحيط بالزعيم لوسيانو ليجييو (شريك الناتو) الذي أدار العصابة، إلى حين اعتقاله عام ١٩٧٤، ثم نائباً لخليفة لوسيانو، سيلفاتوري ريننا، الذي قال عن بيرناردو إنه «يطلق النار كإله، لكن مخه صغير كدجاجة». سيلفاتوري وطاقم قيادة المافيا (٢٤ شخصية)، قبض عليهم جميعهم عام ١٩٩٣ إثر اغتيال النائب الإيطالي العام، جيوفاني فالكوني، الذي كاد أن يكشف كل الأسرار باستثناء سر رجل واحد: بيرناردو.
في حينه، تولى بيرناردو قيادة عمليات العصابة بسريّة مطلقة (كانت رسائله تنقل باليد عبر شبكة معقدة وتأخذ يومين على الأقل في الطريق لضمان عدم متابعتها)، فيما اعتبرته الشرطة الإيطالية مسؤولاً عن اغتيال فالكوني، ولاحقاً خليفته باولو بورسيليننو، إضافة إلى تفجيرات في أماكن عدة في إيطاليا، وشنت حملة قاسية للبحث عنه وتفكيك منظمته.
استمر بيرناردو في الاختفاء، بل إن محاميه الخاص أعلن قبل شهر من اعتقاله، عام ٢٠٠٦، أن الرجل توفي وأن المحققين يطاردون شبحاً، لكن هؤلاء لم ييأسوا واستمروا في مراقبات لصيقة لكل مساعديه وأيضاً لرفيقته ولأولاده، إلى حين تم رصد حركة مجموعة ثياب نظفت بعناية وأرسلت من المنزل إلى مزرعة خارج البلدة. عندما فتح الباب وامتدت يد لتسلّم الثياب، كان رجال الشرطة السريّة قد سيطروا على المكان. لم يقاوم بيرناردو، لكنه حذّر المحققين من أن اعتقاله سيتسبب بزلزال عنيف: «أنتم لا تدركون ما قد فعلتم»! لكن يبدو أن الاستخبارات الأميركية قررت أن تُسكت الرجل إلى الأبد خشية انكشاف أسرار العمليات المشتركة، فدبّرت، وفق تكهنات المراقبين، أمر إصابته بفقدان ذاكرة عجيب، وأعلنت السلطات عن إصابته بالألزهايمر، وبالتالي لم يعد ممكناً استنطاقه على نحو موثوق.
وهكذا، لم يحدث أي زلزال ولم تكشف أي ملفات، وبقي الرجل في عناية أطباء السجن، إلى أن مات في سريره في 13 من الشهر الجاري (من دون أن يدرك ماذا فعلت به الاستخبارات الأميركية؟).
لن يكون لغياب بيرناردو تأثيرات تذكرعلى المافيا الصقلية، فهو شخصياً خارج الصورة منذ ٢٠٠٦، والمنظمة التي كان زعيمها شهدت تحولات جذرية أضعفتها، إذ تراجعت أهميتها الاستراتيجية في «ثلاثي الظلام» إثر اضمحلال الشكل القديم من عملية «جلاديو» لمصلحة عمليات أكثر تعقيداً، فعادت أغلب أنشطة المافيا لتقتصر أساساً على جمع الأتاوات مقابل الحماية من العصابات وتهريب الأسلحة وترويج المخدرات والتجارة في البضائع المقلدة، وربما بعض أنواع الدعارة وتهريب البشر، وهي أعمال مربحة من دون شك، لكنها ليست في قلب صناعة الحدث الإيطالي، كما كانت حال المافيا لعقود مضت.

  • بدأ بيرناردو حياته في عالم الإجرام منذ أيام مراهقته

    بدأ بيرناردو حياته في عالم الإجرام منذ أيام مراهقته (أ ف ب )

0 تعليق

التعليقات