في شهر نيسان الماضي، ألقى فيدل كاسترو، الذي لطالما آمن بأنه سيموت وهو يلبس «البوط العسكري»، كلمة وصفتها الصحافة بكلمة وداع. قال فيها، وسط هتافات الحضور باسمه: «قريباً سيكون عمري 90 عاماً... الكل يأتي دوره... قد تكون هذه المرة الأخيرة التي أتحدث خلالها في هذه القاعة، ولكن الأفكار الشيوعية الكوبية ستبقى إلى الأبد».اختار زعيم الثورة الكوبية عدم الظهور إلى العلن في سنواته الأخيرة، وهو الذي كان يقول دائماً: «لا أعتقد أن الإنسان يجب أن يعيش إلى أن يهرم وإلى أن تخفت الشعلة التي أضاءت ألمع لحظات حياته». لكن التراجع عن الظهور، لم يمنعه من مواصلة مقارعة العدو الأول، أي «الإمبراطورية الأميركية»، ففي آذار الماضي، وجّه انتقاداً لاذعاً إلى الولايات المتحدة بعد «الزيارة التاريخية» للرئيس، باراك أوباما، لهافانا. قال إن «الاستماع إلى كلمات الرئيس الأميركي كانت ستسبب أزمة قلبية لأي شخص»، مضيفاً: «لسنا بحاجة لأن تقدم لنا الإمبراطورية هدايا من أي نوع كان»، مذكراً بلائحة طويلة من الخلافات بين البلدين.
لا يزال كاسترو صامداً بعدما طبعت سيرته ذاكرة القرن العشرين

يرى الكثيرون أن كاسترو كان ولا يزال «شوكة في حلق الولايات المتحدة» التي حاولت مخابراتها اغتياله «أكثر من 634 مرة»، لكنها فشلت وحكم كاسترو البلاد قرابة 50 عاماً، شهد فيها رحيل وصعود نحو 10 رؤساء أميركيين، جميعهم حاولوا إطاحته بشتى الطرق بهدف القضاء، أو على الأقل احتواء، فكر مناهض للإمبريالية والهيمنة الأميركية.
ولد كاسترو في 13 آب عام 1926 لأحد المزارعين، وسرعان ما تمرّد على الحياة المترفة التي وجد فيها تناقضاً كبيراً مع حالة الفقر والحرمان السائدة في مجتمعه. تخرّج كاسترو في كلية الحقوق بجامعة «هافانا» عام 1950، وبعد حصوله على درجة الدكتوراه في القانون، رفع قضية ضد رئيس البلاد حينها، فولغنيسو باتيستا، اتهمه فيها بانتهاك الدستور. وبعد رفض دعواه القضائية، اختار كاسترو حمل السلاح وهاجم ثكنات مونكادا العسكرية، في محاولة فاشلة لإسقاط النظام المدعوم من الولايات المتحدة. سجن كاسترو ثم عُفي عنه، ونُفي، إلا أنه عاد إلى كوبا في عام 1956، بعدما شكّل مجموعة ثورية برفقة تشي غيفارا، ونجحت الثورة التي قادها مع «الثوار الملتحين» تحت شعار «لا لصوص، لا خونة، لا تدخل خارجياً! هذه المرة الثورة حقيقية»، وأُطيح باتيستا، الذي هرب في كانون الثاني من عام 1959.
في ظل تقرّب كاسترو من الاتحاد السوفياتي، أصبحت كوبا معقلًا للحرب الباردة، وفي عام 1961 اجتاح كوبا نحو 1,400 من المنفيين الكوبيين، الذين درّبتهم وسلّحتهم وكالة الاستخبارات المركزية، في خليج الخنازير في محاولة فاشلة لإطاحة النظام. وكشف أرشيف الأمن القومي الأميركي في ما بعد أن الولايات المتحدة بدأت التخطيط لإطاحة كاسترو في وقت مبكر من تشرين الأول عام 1959.
حوّل كاسترو، الذي اشتهر باللحية السوداء والبزة العسكرية، كوبا إلى دولة اشتراكية يحكمها حزب واحد، هو الحكم الأول من نوعه في نصف الكرة الغربي. يقول الزعيم الكوبي إن «الرأسمالية بغيضة وقذرة ومقرفة، لأنها تسبب الحروب والنفاق والمنافسة»، ويؤمن بأنه لا بد لتناقضات الرأسمالية الأميركية من أن تدمر نفسها. ويعتقد أن «إيرادات الشركات الكوبية التي تديرها الدولة يجب أن تصرف حصراً على مصالح الشعب».
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، نجح كاسترو بالسيطرة على الحكومة خلال الأوقات الاقتصادية العصيبة، وفي عام 2008 استقال من الرئاسة بسبب مرضه، تاركاً الحكم لأخيه راؤول.
توقّع الكثيرون أن يسير راؤول على خطى أخيه، لكن كوبا كما أرادها كاسترو بدأت تتغير بالفعل، وباتت البلاد تعرف تحولاً من النظام الاشتراكي إلى نظام اقتصادي مختلط، وتتبنى سياسات «أكثر انفتاحاً» على القطاع الخاص، فيما يجري خفض عدد الوظائف في القطاع العام وكذلك إعانات الدولة. ولعلّ الخطوة الأهم تمثلت ببدء تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة.
قد يصعب التكهن اليوم بمستقبل الجزيرة الكوبية، لكن «الثوري الأحمر» لا يزال صامداً بعدما طبعت سيرته ذاكرة القرن العشرين... الغنية بالمراحل الجميلة (والقاتلة).