لم تكن الرئيسة البرازيلية المعزولة، ديلما روسيف، أفضل الرؤساء، وليست أكثرهم حكمة ودهاء، لكنها في الوقت نفسه لم تكن فاسدة أو متلاعبة في ميزانية الدولة، بل هي ضحية لحظة سياسية أوجدتها تراكمات إخفاق اليسار في تحقيق تطلعات مجتمع وضع آماله في تجربة سياسية كادت أن تكون فريدة، وضحية تربص الخارج وحشده لكل أدوات الانتقام من كل الإنجازات السيادية التي حققتها الحكومات العمالية المتتالية على الصعيدين السياسي والإقتصادي.وبالرغم من أنّ محامي روسيف قدّم طعناً أمام المحكمة العليا ضد قرار مجلس الشيوخ، فإنّ تصويت الأخير بأغلبية 61 صوتا من أصل 81 صوتا على عزل الرئيسة العمالية، أول من أمس، ومن ثم إقراره بحقها في العمل السياسي من خلال تصويت لاحق، يشي بأن الإقالة ليست إلا محاكمة سياسية لا تستند إلى مضامين قانونية أو مسوغات دستورية، وذلك حتى لو حمل الإخراج بعضا من مشاهد المرافعات والمساءلات التي امتدت لأكثر من سبعين ساعة.
ستواكب روسيف استعدادات لولا دا سيلفا لاستحقاق 2018 الرئاسي

خروج روسيف من السلطة نهائياً لم يمثّل مفاجأة لأحد، فالعماليون كانوا على علم مسبق بالنتيجة ولكنهم آثروا الخروج المدوي لتمثّل المرافعات ثقلا معنويا على كاهل المشاركين في الإنقلاب وعلى رأسهم الحليف السابق، ميشال تامر، الذي غسل يديه من أخطاء الحكومات المتعاقبة التي كان لحزبه الحصة الأوفر فيها، فانتزع الرئاسة وهو يعلم أن روسيف صاحبة الحق الدستوري والأخلاقي وأنها تكاد تكون الوحيدة تحت قبة مجلس الشيوخ التي تحظى بسجل ناصع البياض، لكن حسابات تامر وجدت في الانقلاب فرصة تاريخية لتقلد الرئاسة واكتساب مظلة سياسية وقانونية تحميه من تداعيات ملفات الفساد المتراكمة في أدراج المحققين.
قطفت المعارضة السلطة دون الإكتراث الى الإرتدادت التدميرية لهذا السلوك الذي أطاح الأسس المتبعة لتداول السلطة. وهي كانت مستعدة للذهاب أكثر في لعبة الفوضى بعدما استحوذت على غطاء خارجي وتغطية إعلامية مفتوحة. أمام هذا الواقع، آثرت روسيف أن تخرج بسلام يخلص بلادها من الشر المستطير ومن الفوضى التي تهدد كل إنجازات هذا البلد النامي. وكانت روسيف تعلم أن الوضع السياسي لا يسمح بالمزيد من الإنهيارات في مؤسسات الدولة التي، وإن جارت عليها، فإنها وحدها تمثّل ضمانة للاستقرار الداخلي وعدم دخول البلاد في غياهب الفوضى. ولن يكون خروج الرئيسة العمالية نهاية لدورها السياسي، بل من المتوقع أن تواكب الزعيم اليساري، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، في استعداداته لخوض الانتخابات الرئاسية المرتقبة في عام 2018.
وعليه، فقد استطاع العماليون تجاوز قطوع "الإنقلاب" واستعدوا للعمل خارج إطار الصدمة، وبدأوا إعداد ملفات المواجهة داخل المؤسسات التشريعية والقضائية استعدادا للمرحلة المقبلة التي ستكون صاخبة على مستوى كشف فضائح الفساد التي ستتصدرها شخصيات سياسية وقضائية رفيعة المستوى.
يُحسب لروسيف انها كانت الأحرص على أمن البلاد ولو بكلفة عالية، ويُحسب لليسار أنه تعاطى بروح المسؤولية في أهم المراحل السياسية، وأنه فضّل الاحتكام إلى منطق الدولة بدل الإنجرار إلى صراع داخلي سيجر الويلات على مستقبل البلاد.
غادرت روسيف بمناقبية وشجاعة، واعدة باستعادة دورها النضالي الذي وصفته بالقدر المحتوم الذي رافقها منذ نعومة أظفارها ولم يفارقها حتى وهي على رأس السلطة. ولعلّ العودة إلى ما وصفته بـ"الزمن الجميل"، سيجعلها أكثر قوة وصلابة وبعيدة عن حسابات السياسة وارتهاناتها.