لعلّ أكثر الأسئلة أهمية، ومتعة، بشأن الانتخابات الرئاسية الأميركية، تلك التي تُطرح راهناً في بعض الصحف الغربية: "ما هي الصورة التي ستكون عليها الولايات المتحدة غداة انتخاب دونالد ترامب رئيساً؟".أهمية السؤال معروفة ولا تحتاج إلى تبرير. أما المتعة، فهي في حيوية السياسة حين يحاكيها احتمال انتصار ظاهرة مثل ترامب. وهي تكمن أساساً في قدرة ظاهرة كهذه على إثارة الخيال (السياسي)، إلى درجة كان من الطبيعي أن يستذكر بعض الكتّاب (كما فعلت إيريس ديرو في صحيفة ميديابار الإلكترونية الفرنسية) رواية فيليب روث، "مؤامرة ضد أميركا"، التي يتخيّل فيها الروائي فوز مرشح رئاسي قريب من معسكر هتلر في الأربعينيات، لينقل في ما بعد الرعب الذي سيواجهه "يهود أميركا" إثر ذلك. هذا النوع الأدبي الذي بنيت استناداً إليه رواية روث (نشرت قبل نحو عشرة أعوام)، أثار شبيهه في فرنسا ضجة حين نشر الروائي، ميشال ويلبيك، رواية "خضوع" التي تتساءل عملياً عن اليوم الذي سيحكم فيه مسلم فرنسا (وهو ليس بعيداً بنظره ــ عام 2022).
هذا الخيال السياسي الذي يعود إلى الماضي، أو يعبر باتجاه المستقبل القريب، بات يحتل حيزاً واسعاً في الصحف والإعلام منذ تحوّل دونالد ترامب إلى مرشح رئاسي جدي في مواجهة هيلاري كلينتون، وبات من الطبيعي أن يحتل السؤال عن "ما بعد فوز ترامب" حيزاً واسعاً من النقاشات.
أخطأت وسائل الإعلام حين قرأت ظاهرة دونالد ترامب بعيون الماضي

في هذا السياق، تعترف الكاتبة ماشا جيسن، بأنّ مؤسسة الرئاسة الأميركية "محددة الأطر، بحيث لا تعطي لدونالد ترامب أدوات كثيرة للتأثير جذرياً على حياة الأميركيين"، لكنها تستدرك بالقول: "هذه هي تحديداً المشكلة، إذ لا بد أن يشرع الرئيس ترامب في تدمير المؤسسات الديموقراطية الأميركية، ليس لأنها تمثّل عائقاً أمام الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، بل لأنها تشكّل عائقاً أمام الطريقة التي يريد من خلالها أن يحقق أهدافه... وخاصة أن بطء عملية المداولات البرلمانية لا يساعد".
قد يبدو هذا المناخ الذي تدخل من خلاله الولايات المتحدة إلى هذا الاستحقاق "غير الاعتيادي" مثيراً للقلق، إلى درجة تجعل أيّ متابع يتساءل عن المسارات التي ستعرفها "الإمبراطورية" فور فوز ترامب بالرئاسة، وعن الانعكاسات. لكن من نافل القول ربما إنّ كبرى المؤسسات الإعلامية في الولايات المتحدة، وغيرها في الدول الغربية ـــ كما رأس المال الذي يقف عملياً إلى جانب "مرشحة المنظومة"، هيلاري كلينتون ــ لعبت دوراً مهماً في رسم هذه الصورة المرعبة، في محاولة لإجبار أي ناخب على اختيار كلينتون... وإلا عليه أن يواجه "صعود الشعبوية"، بل حتى "الفاشية الجديدة"، وهي تعابير أسقطت، للمفارقة، غالبية وسائل الإعلام الغربية، حين قرأت الأحداث بعيون الماضي (أوروبا ما بين الحربين العالميتين، أو حقبة الحرب الباردة). وربما سبب ذلك أنّ الخيوط رفيعة بين الخيال السياسي وبين إحياء الماضي بصورة فوضوية وعشوائية، وكان من الأجدى التنبه أيضاً إلى أنّه خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، كانت وجوه رأس المال تتقرب من الخطابات القومية، والفاشية، وتتبناها، بعكس ما هو حاصل مع "الشعبوي ترامب" اليوم.
وليس من باب تبني ظاهرة ترامب، لكن تلك الكتابات تقفز فوق ما يشير إليه الأكاديمي والباحث فرانسيس فوكوياما (في مقال أخير في فورين أفيرز)، حين يقول إنّ "القصة الحقيقية لهذه الانتخابات هو أنه بعد عدة عقود، تستجيب الديموقراطية الأميركية إلى (مسألة) تزايد عدم المساواة والركود الاقتصادي الذي يعيشه أغلب السكان. عادت الطبقية الاجتماعية إلى قلب السياسة الأميركية لتغطي على انقسامات أخرى"، ما يعني أنّ ظاهرة ترامب تمثّل استجابة، لا بد من دراستها بصورة ترتقي فوق "الكاريكاتورية".
من جهة أخرى، فإنّ تخويف أي متابع يتبنى قيم العدالة الاجتماعية والمساواة، وخاصة هنا في المشرق العربي، من انتصار ظاهرة ترامب، لا يجدي (هذه ظواهر تتشعب اليوم في العالم الغربي، وبالتالي فإنّ مواجهتها يجب أن يكون بداية هناك). كما أنّ تبني أحد الخيارين (كلينتون أو ترامب) يبقى غير مفهوم وغير مبرر، وخاصة أنه على صعيد السياسة الخارجية، إذا كانت كلينتون "محبوبة" المحافظين الجدد (برغم كونها ديموقراطية)، فإنّ ترجمة "عظمة أميركا" التي يريدها ترامب في هذا المضمار لا يمكن تكهنها لأسباب عدة.
لكن بالعموم، فإنّ النظرة الساخرة تغلب لتحديد أي موقف هنا، إذ من أفتى بأنّ السخرية ليست من السياسة في شيء؟ وليكن ترامب بصفته أزمة أميركية داخلية، بدل خيار "عجرفة الإمبراطورية" على ما تبقى من "العالم الثالث".