نتابع في ما يسمى «العالم الثالث» تطورات السباق الرئاسي الأميركي عن بعد، ونشعر بأننا في الانخراط الكلي في النقاشات. ربما مردّ ذلك إلى أنّ «الإمبرطورية» ساهمت، خاصة في هذه المنطقة من العالم، في هندسة البنية التي تشمل السياسات الاقتصادية، مروراً بالسلع التي نستهلكها، فالبرامج التي نشاهدها، والألبسة التي نرتديها، والمصطلحات التي نستخدمها، والموسيقى التي نسمعها، وبنى الأحلام التي تشكّل واقعنا.قد يصل ذلك إلى حدود الإقرار بالعجز عن تحديد ما إذا كنّا نحن من يقوم بفعل ما، أم عميل الاستخبارات الأميركية الصغير الذي يعيش داخلنا، ولا إذا كانت تبريراتنا لهذه الأفعال منطقية أو أنّ اقتناعنا بها يأتي كانصياع للاستعمار الأميركي. لذا، من المنطقي، ربما، طغيان السخرية عند متابعة تخبّط «الامبراطورية» بين مرشحَين اثنين: يمثّل الأول (هيلاري كلينتون) بقاء النظام على حاله بشكل قد لا يكون قابلاً للاستمرارية، فيما يشخصن الثاني (دونالد ترامب) «أميركا البيضاء» بعنصريتها وذكوريتها وفوقيتها بشكل هجائي فذ.
وقد يذهب البعض (من اليسار تحديداً) إلى الميل نحو معسكر ترامب كردّ فعل على الدعم الهائل التي تحصل عليه كلينتون بحجة أنها الخيار العقلاني الوحيد بوجود مرشح جمهوري كترامب. وقد بنت هيلاري (التي تعلم أنها لا تحظى في الواقع بشعبية حقيقية) حملتها الانتخابية بأكملها على مبدأ «إما أنا أو ترامب». ولأنها اختارت أن تتخذ هذا الموقع، اضطرت إلى القبول بأن يكون أساس حملتها اعترافاً ضمنياً بأنها، كما تُتّهم: مرشحة الشركات الكبرى والمصارف والديكتاتوريات المصنّفة مجرمة حرب، فضلاً عن أنها لن تسهم في حل قضايا الفقر، والأقليات، ولن تقلل البطالة، ولن تنهي الحروب الأميركية، ولن تغير سياسات واشنطن الخارجية. بمعنى آخر، هي قبلت بأن تكون الخيار الأقل سوءاً بغياب الخيار المناسب. وقبلت بذلك لأن منافسها هو ذاك المهرج الصريح بعنصريته وذكوريته، الذي تارةً يعد ببناء جدار يمنع المهاجرين من العبور إلى الولايات المتحدة، وتارة يهدد بقصف دول أخرى بأكملها، وتارة يفتخر بتحرّشه بالنساء. وهو لا يملك أصلاً أي خبرة حقيقية في السياسة، ومدعوم من الـ«كلو كلوكس كلان».
من هنا، لأننا اعتدنا، كيساريين، ممارسة السياسة بقوانين المنظومة المهيمنة، ولأننا كسكّان «العالم الثالث» لا نرى أننا سنتأثر مباشرةً بنتيجة الانتخابات، فقد يدفعنا غضبنا الناتج من نفاق حملة كلينتون (ووقاحتها) إلى إعلان تفضيلنا لترامب. نبرر ذلك إما عبر تسطيح الأمور واعتبارنا أنه لا فرق بين المرشحين أصلاً، أو كما قال المفكر السلوفيني، سلافوي جيجك، منذ أيام، إن فوز ترامب قد يجبر المؤسسة على إعادة النظر في بنيتها وآلياتها (وكأن مسؤولية اليسار هي المساهمة في إنقاذ المؤسسة!). وبهذا نكون قد أكّدنا شعار حملة هيلاري الضمني «إما أنا أو ترامب» كأمر واقع. وهذا يحدث دائماً عندما تنتفي البدائل، أو تغيب؛ ننسى أننا لدينا خيار رفض الخيارين، وأن ذلك بذاته يخلق حالة مغايرة قد ينبثق عنها خيار ثالث، غير مبني فقط على رفض الواقع القائم.
لكن المسألة أكثر تعقيداً من ذلك أيضاً، إذ ننسى دائماً في نقاشاتنا حول الانتخابات الأميركية الأقليات التي تعيش هناك، خاصة الفقراء منهم، الذين يتعرضون كل يوم للأخطار التي تنجم عن ممارسات المؤسسات والمنظمات والأفراد العنصريين من الشرطة والاستخبارات، والأحزاب المتطرفة. ونتجاهل أن وجود ترامب، وإن كان لا يغيّر شيئاً في بنية النظام والمجتمع، سيكون بمثابة نقطة مرجعية لهؤلاء، ما سيخلق أطراً جديدة «تشرعن» اضطهاد الأقليات، بحكم وجوده في مكتب الرئاسة كممثل للشعب الأميركي.