كان البيت الأبيض، على مر الحقب، أشبه بـ"مصحة مجانين" يعاني نزلاؤها البارانويا، وجنون العظمة، والانحرافات السادية، واضطرابات المزاج المرضية، وغيرها من الأعراض العقلية غير المتوقعة لدى رؤساء قوة عظمى تزعم أنها تقود "العالم الحر".ما إن بدأت استطلاعات الرأي تشير، مطلع الصيف الماضي، إلى أن ترامب أصبحت لديه حظوظ جدية للفوز بالرئاسة الأميركية، حتى بدأت المخاوف تخرج الى العلن، محذرة لا من تطرفه وشططه وعنصريته فحسب، بل أيضا ــ وأساساً ــ مما يعانيه من عوارض نفسية يرى فيها الاختصاصيون مؤشرات على اختلال عقلي مرتبط بعصاب اضطراب الشخصية النرجسي.
في مطلع آب الماضي، أطلقت كارين باس، العضو الديموقراطي في الكونغرس، حملة طالبت فيها بعرض ترامب لفحوص نفسية للتثبت من توازنه النفسي وصحته العقلية، تحت الهاشتاغ #DiagnosseTrump. ونقلت كارين باس عن خبراء في علم النفس أن طباع ترامب التي تتسم بـ"التهور وعدم القدرة على التحكم في النفس والعجز عن ضبط عواطفه" تنم عن إصابته بعصاب "الانحراف النرجسي" Narcissistic Perversion.
مطلع أيلول الماضي، انضم إلى المحذرين من اضطرابات ترامب العقلية نائب سابق في الكونغرس، من المعسكر الجمهوري هذه المرة، وهو جو سكاربوروغ، الذي استند هو الآخر إلى خبراء نفسانيين للقول إنّ "الملياردير صاحب الطباع النارية" يعاني عصاب "الاعتلال الاجتماعي" Sociopathy. وهو مرض عقلي بالغ الخطورة بالنسبة لشخص يستعد لتولي الحكم في دولة عظمى، إذ يشير "القاموس التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية" إلى أن هذا المرض العصابي عبارة عن "اضطراب في الشخصية يتسم باحتقار المعايير والضوابط الاجتماعية، وصعوبة التفاعل عاطفيا أو الشعور بمعاناة الغير، وبميل كبير نحو الاندفاع الغريزي".
وبالرغم من أن أنصار ترامب سعوا إلى الرد على هذه الحملات، مستندين بدورهم إلى علماء نفسانيين، للقول بأن هذا النوع من "التشخيص عن بعد" يفتقر الى الصدقية لأن "من يتحدثون عن الاضطرابات العقلية لترامب لم يعاينوه شخصيا، بل اكتفوا برصد سلوكه عبر وسائل الإعلام"، فإنّ شخصية مرجعية في مجال علم النفس، جيفري فلاير، وهو العميد السابق لكلية الطب في هارفادر، حسم هذا الجدل لمصلحة منتقدي ترامب. وقال فلاير إنّ "ترامب ليس مصاباً بعصاب الاعتلال الاجتماعي فحسب، بل إنّ حالته جديرة بأن تورد في القواميس الطبية بوصفها خير تعريف لأعراض هذا المرض".
تتوقف الدراسة عند ولاية نيكسون بسبب السرية المحيطة بسير اللاحقين

لكن ترامب، بالرغم مما يتسم به من طبع ناري وشطط لفظي وسلوك فظ، ليس أول رئيس أميركي تحوم الشكوك حول توازنه وصحته العقلية. وذلك ما كشفته دراسة بالغة الجدية، أعدها مركز الدراسات الطبية في "جامعة ديوك"، ونُشرت في مجلة عملية مرموقة هي Journal of Nervous and Mental Disease.
لإعداد هذه الدراسة، قامت مجموعة من الباحثين بتحليل الخلفيات النفسية لكافة رؤساء الولايات المتحدة، منذ اعلان الاستقلال، عام 1776، حتى تنحية ريتشارد نيكسون من الحكم في آب 1974. وجاءت النتائج مذهلة، إذ تبين أنّ 49 في المئة من الرؤساء الأميركيين الذين تداولوا على الحكم كانوا يعانون أعراض اضطرابات عقلية ونفسية شتى. يتصدر تلك "الاضطرابات الرئاسية" مرض الاكتئاب (بنسبة 24 في المئة)، يليه اضطراب المزاج المرضي أو الثنائية القطبية Bipolarity (8 في المئة)، ثم تأتي بنِسَب أقل أعراض الوساوس القهرية والانحرافات السادية والقلق المرضي والهوس الجنسي وإدمان الكحول.
أشهر نموذج عن نزلاء البيت الأبيض المصابين بالثنئاية القطبية (اضطراب المزاج المرضي)، هو تيودور روزفلت (1901 – 1909)، إذ كان مزاجه يحتد أحيانا إلى درجة العراك بالأيدي مع أحد الجنود في البيت الأبيض، ما أدى إلى تلقيه ضربة موجعة تسببت له في عاهة مستديمة بعينه اليسرى. وينقلب مزاجه أحيانا إلى النقيض، فيصبح مسالماً إلى حد رفضه إطلاق النار على أحد الدببة خلال رحلة صيد، متعللا بأن الدب المسكين كان بلا دفاع. وهو ما جعل الأميركيين لاحقا يطلقون اسمه، تيدي، على الدببة القماشية.
من جهته، كان الرئيس وودرو ويلسون (1913 ــ 1921) يعاني الاكتئاب الحاد. وشخّص فرويد أسباب ذلك بعقدة ناجمة عن هوسه بالتشبه بوالده الذي كان قساً بروتستانتياً، ما دفع إلى التعويض عن ذلك خلال توليه الحكم، بنوع من جنون العظمة جعله يقارن نفسه بالسيد المسيح.
ولعلّ الرئيس الذي انعكست اضطراباته العقلية بالقدر الأكبر من الخطورة على بلاده، وعلى العالم، هو كالفين كوليدج (1923 ــ 1929)، الذي كان رئيساً تقدمياً بالرغم من انتمائه إلى الحزب الجمهوري، وكان يعدُ بمنح الحقوق المدنية للسود. لكن فُجع بعد عام واحد من توليه الحكم بفقدان ابنه في حادث مروع، ما تسبب في اختلال نفسي ولّد لديه انحرافا ساديا حادا. وقد برز ذلك في مناسبات شتى، حيث كان يتلذذ بغرز إبر صنانير الصيد في أيدي حراسه. كما لوحظ الأمر، في احدى المرات، خلال مناسبة عامة، حين أصيبت زوجته بجراح، فلم يقم بإسعافها، مكتفيا بالتفرج عليها بلذة صادمة. وكان الانطباع السائد، تاريخياً، أن قصور الحكومة عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لتفادي الانهيار الاقتصادي الشهير، عام 1929، كان مرده الى الاكتئاب الحاد الذي كان يعانيه الرئيس كوليدج، إذ كان ينام أغلب الوقت، ولا يصحو لأكثر من اربع ساعات في اليوم. لكن الدراسة كشفت أنه كان يعرقل عمداً الإجراءات الاحترازية المضادة للانهيار الاقتصادي بدافع التشفي السادي بمواطنيه.
أما أغرب أنواع الاضطرابات العقلية التي شهدها البيت الأبيض، فتتعلق بالرئيس ليندن جونسون (1963 ــ 1969)، الذي كان مهووساً بحجم عضوه التناسلي. وتكشف الدراسة أنه كان يرتاد تواليت الكونغرس خصيصاً لإرغام النواب على تأمل عضوه، الذي كان يلقبه بـ "جامبو"، مردداً: هل سبق أن رأيتم شيئا بهذا الحجم؟
للأسف، تتوقف الدراسة عند ولاية نيكسون عام 1974، لأن السرية لا تزال تحيط بسير نزلاء البيت الأبيض اللاحقين، ما يفوّت فرص اكتشاف المزيد عن العاهات العقلية لباقي الرؤساء، وبالأخص منهم رونالد ريغان وجورج بوش الابن، اللذين يمثل ترامب امتداداً للشطط والبذاءة اللذين وسما أسلوبهما في الحكم.