إذا كان بعض الخبراء النفسيين يميلون إلى اعتبار القرن الحالي «عصر القلق»، بسبب الضغط المتواصل الذي يعيشه الفرد في ظلّ هيمنة نمط حياة معيّن، فإن الأحداث والتحوّلات السياسية الكبرى لها أيضاً أثرها على الصحة النفسية التي تصبح سمةً جماعية، على الرغم من ظاهرها الفردي.وإذا كان محللون نفسيون يرون أن الحديث المبالغ به عن الصحة النفسية في عالمنا الحالي، وخصوصاً عن مرضي الاكتئاب والقلق، هو في جوهره ليس سوى «ماركتينغ» لأوهام ضرورية لاستمرار سوق النظام المهيمن، فإنه لا يمكن تجاهل تنامي الحديث عن النتائج النفسية التي خلّفتها حملة دونالد ترامب ثم فوزه على الكثير من الأميركيين، وأهمها ما سمّاه الإعلام الغربي خلال الأشهر الأخيرة بـ»Trump anxiety» (القلق من ترامب). إذ إن ترامب، قد حلّ، قبل أشهر قليلة من الانتخابات، ضيفاً يومياً على «كنبات» المعالجين النفسيين الأميركيين الذين استقبلوا مئات الأفراد «القلقين» المنتظرين بجزع يوم الثامن من تشرين الثاني، كمن ينتظر كارثة كبرى وشيكة.
حتى وصلنا إلى الليلة التي أُعلن فيها رئيساً، لتعلن «المنظمة الوطنية للوقاية من الانتحار» إنها تلقت 660 اتصالا (أكثر بمرتين ونصف مرة من المعدل) بين الساعة الواحدة والثانية من فجر الاربعاء.
في احد تعريفاته للقلق، يقول سيغموند فرويد إنه إشارة داخلية أمام خطر محدق، وإنه آلية دفاعية تنتجها الذات في مواجهة دفق إثارة معينة. أما بالمعنى الفلسفي الوجودي، فقد ميّز، مارتن هايدغر، القلق عن الخوف، لأن الأخير يتوجّه دائماً نحو هدف خارجي معيّن وواضح. أما القلق فهو شعور غير موجّه، إذ إنه لا هدف أو شيء يقصده.
في الحالة الأميركية اليوم، يمكن القول إن القلقين يعرفون ولا يعرفون في الوقت عينه سبب شعورهم، الذي جعل إحدى الطبيبات النفسيات تقول لموقع «سلايت» الأميركي، عشية الاستحقاق الرئاسي، إن ما يجري أقرب إلى انهيار عصبي وطني من كونه انتخابات! فأمام هؤلاء مجموعة من «الأسباب» التي تثير هذا الشعور، استقَوها من تصريحات ترامب على مدى السنة الأخيرة، ومن الفضائح التي طاولته، ومن آلاف المقالات والبرامج التي سُخّرت للإحاطة بهذا الرجل، وأمامهم أيضاً مصير لشكل بلدٍ لا يعرفون إلى ما سيؤول في عهد شخصية كاريكاتورية، كل ما فيها مضخّم.
لعلّ تعبير «القلق» هو أكثر ما وجدناه في الصحافة العالمية غداة فوز ترامب. «قلق عميق لدى المكسيكيين منذ مساء الثلاثاء» (لوس انجلس تايمز). «من غير الممكن عند هذه اللحظة سوى التعاطي باشمئزاز وقلق عميق» (نيويوركر). حتى ان موقع «Psychology today»، وضع على صفحته الرئيسية عقب نبأ الفوز، صورة طفلٍ مع عبارة «حافظوا على هدوئكم». ومن إحدى الطرائف التي تدلّ على حالة الكثيرين ليلة الانتخابات، ذكر تقرير موقع «هافنغتون بوست» الفرنسي، أن أكثر «إيموجي» (وجه تعبيري) استُخدم على مواقع التواصل أثناء الفرز كان «الوجه المصدوم»، قبل أن يحتل «الوجه الباكي» التفاعل عند التأكد من النتيجة (بحسب موقع «إيموجي بيديا»).
وقبل ثلاثة أشهر من الانتخابات، وقّع 3000 اختصاصي نفسي أميركي بيانا يرفض ما سّموها «الترامبية»، معلنين أنها خطر على الناس الذين يعالجونهم. البيان يعرض أهم عوارض وأسباب «الترامبية» التي يقول إنها إيديولوجيا ولا تعبر عن شخصٍ واحد فقط. يقول البيان إنها «مجموعة أفكار حول الحياة العامة ومجموعة ممارسة تستغل وتقصي الجماعات التي تظنّها تهديداً بمن فيهم المهاجرون والأقليات». ومن صفات هذه «الايديولوجيا»: إهانة الخصوم والنقّاد، والسخرية منهم والحط من قدرهم، التشجيع على تقديس «الرجل القوي» الذي يميل الى التخويف والغضب، التحريض على العنف العام، كما أنها ترتكز على عدم الحاجة إلى البرهنة العقلية، وعدم الاعتذار أو الاعتراف بالخطأ. أما من أين جاءت «الترامبية»؟ فيذكر البيان بعض الخلفيات، مثل انعدام الأمان الاقتصادي، ولا سيما في صفوف الطبقة العاملة الأميركية، تهديد الارهاب منذ عام 2001 والخوف من المهاجرين المرتبط بهذا الموضوع، والتغير الثقافي السريع الذي يترك الكثيرين في حيرة وعزلة.
ونقل موقع «سلايت»، في أيلول الماضي، أنه خلال السباق الانتخابي، وُثقت حالات عانت كوابيس وأرقا ومشاكل في الهضم وآلاما في الرأس، وهي عوارض قلق لأشخاص لم يفهموا بدايةً سببها، إلا أنهم شخصّوا على أنهم مصابون بـ»القلق من ترامب». لكن الموقع الأميركي يعقّب على شهادات «المرضى»، بالقول إن الخوف من رئاسة ترامب رد فعل انساني طبيعي، وليس بالضرورة شرطاً مرضياً. فهذا القلق يدلّ على أنك «شخص مفكر في أميركا في خريف 2016». وتقول المعالجة النفسية أندريا غيتر، إن غالبية من اشتكوا من العوارض المذكورة هم من أعراق أخرى، إذ إنه بالنسبة لكثيرين منهم يرتبط القلق بمخاوف على الأمن الجسدي للجماعات التي ينتمون اليها. وأشارت كذلك، إلى انتشار هذه المشاعر بين شابات طلبن علاجاً بعد صعود ترامب «الذي يجسد أسوأ صفات الرجال الذين ارتبطن بهم في السابق، في مجال تضخيم الذات وغيرها».
قد يبدو في كل هذا مبالغة، وخصوصاً على صعيد الهشاشة النفسية التي تبدو طاغية على شرائح كبيرة من الجمهور الأميركي. إلا أنه علينا الاعتراف بهذه الحقيقة؛ فلقد استطاع ترامب، بمساعدة كبيرة من الميديا العالمية، أن «يحفر عميقاً في النفوس»، بحسب ما قالته صحيفة «الغارديان» البريطانية التي تصدّت بدورها لـ»المتلازمة» نفسها.
طيلة الفترة الماضية، قُدّم ترامب بكونه دخيلاً على نظام القيم الغربية، ما أثار كل تلك الاضطرابات التي ربّما كانت ستكون أخفّ بكثير لو أن «المرضى» نظروا مرةً في مرآة مجتمعهم، واعترفوا بأن الحقيقة منافية للصورة التي أسكنها بعض وسائل الإعلام وفقاعة مواقع التواصل في مخيلاتهم.