ايمانويل ماكرون (38 عاماً)، وزير سابق، انقلب على حكومة فرنسوا هولاند وعلى «الحزب الاشتراكي»، يعد الفرنسيين بتذليل العقبات السياسية التي تعيق تطور بلادهم، قد يصبح رئيساً للجمهورية. هو يؤكد أن شعاره «الأمل»، ويكرر تصوير نفسه كمرشح من خارج النظام السياسي، وذلك عبر دعوته إلى الخروج من «الوضع الراهن» لمواجهة تحديات «عصر جديد»، وتشديده على أن «نظامنا السياسي معرقل... والأجهزة السياسية والمنطق المسيّس يشلان قدرتنا على المضي قدماً».للوهلة الأولى، قد تعِدُ مواصفات هذا الرجل بولادة ظاهرة جديدة من شأنها أن تقدّم بديلاً محتملاً للشخصيات السياسية التقليدية المطروحة لرئاسة البلاد، وخاصة أنّه يتمايز عن «وصفات القرن الماضي»، ويعتمد عبارة «لا يسار ولا يمين» شعاراً لحركته السياسية، «إلى الأمام»، لكن خلف هذه الشعارات الرنانة، يمكن الوقوف على سيرة خبير فرنسي محنّك، عرف كيف ينتهز الفرص لانتزاع حيزه الخاص ضمن المشهد السياسي.
زملاء ماكرون (38 عاما) السابقون في الحكومة وفي «الحزب الاشتراكي» لم يتقبلوا صعوده السياسي الذي قام على «طعنة في الظهر» بعدما كرّس مسيرته السياسية في ظلهم. أما «معلمه»، رئيس الجمهورية، فرنسوا هولاند، فيبدو أكثر المخدوعين في هذه القصة. وأكثر الغاضبين منه، رئيس الحكومة، مانويل فالس، الذي رأى سابقا أن ماكرون «يستسلم للإغراءات الشعبوية... فيما هو أصلاً من نتاج نخبة هذه الجمهورية».
استهل ماكرون مسيرته في العمل الحكومي كمستشار في عهد ساركوزي

وبرغم التراشقات الإعلامية المستمرة بين الطرفين، وحده ربما المرشح اليساري لرئاسة الجمهورية، جان لوك ميلانشون، عرف تلخيص المشهد، منذ آب الماضي، حين قال إنّ «ماكرون يغادر الحكومة ليكون مرشحاً للرئاسة، هولاند لا ينتج إلا الوحوش السياسية».
استهل ماكرون سيرته في العمل الحكومي «مثل جميع الأوليغارشيين»، مستشاراً اقتصادياً في عهد نيكولا ساركوزي، بعدما كان مصرفيا في «روتشليد»، ثم استكمل صعوده في عهد هولاند الذي تبناه. وللمفارقة، عندما بدأ عمله السياسي كمستشار لهولاند، كان ماكرون في الظل ولا يحب الظهور في الإعلام، فيما أصبح اليوم نجماً إعلامياً بامتياز.
في عام 2015، أطلق ماكرون قانوناً اقتصادياً جديداً، عُرف بـ«قانون ماكرون»، اعتُمد من دون تصويت في البرلمان (استناداً إلى مادة في الدستور الفرنسي)، بعدما رفضته الأغلبية البرلمانية. أما نواة هذا القانون الذي شرعته حكومة اشتراكية، فقد ولدت في عهد الرئيس اليميني، نيكولا ساركوزي، عام 2008، تحت عنوان «تقرير لجنة أتالي».
يداً بيد، كتب ماكرون والاقتصادي النيوليبرالي جاك أتالي، قبل أعوام، التقرير الذي سيتحوّل إلى قانون في عهد هولاند، وكان أتالي رئيساً للجنة التي سعت إلى إطلاق هذا «الإصلاح الاقتصادي». وكان ذلك «الإصلاح» يتماشى ومطالب بروكسل ويطبّق رغبة الأوروبيين، وقد انطلق من فكرة أنّ «فرنسا لا تتقدم اقتصادياً مقارنة بمحيطها»، وهذا ما برر الطابع الضروري للإصلاحات.
يتألف التقرير من 300 بند، ويتلخص بضرورة «تخفيض الإنفاق الحكومي منذ عام 2008 في الناتج المحلي الإجمالي»، أو أيضا «تشريع العمل يوم الأحد»، إضافة إلى التغيير الحاد في قانون العمل للسماح في «الفصل الودي» في عقد العمل. ويركز التقرير أيضاً على أهمية تطوير «التمويل من القطاع الخاص» في التعليم العالي، أو بعبارة أخرى خصخصة الجامعات. أما العبارة اللافتة في التقرير، فهي أن تلك الإصلاحات يمكن أن تطبق مهما كان توجه الحكومة السياسي، لا بل «يجب أن تطبق... مهما كانت هوية الأغلبية البرلمانية».
عَبَرَت إصلاحات أتالي ــ ماكرون (التي جلس خلال مناقشاتها في منتصف عام 2007 الرئيس التنفيذي لشركة فيرجين موبيل وأسماء كبيرة أخرى في شركات خاصة)، عهد ساركوزي، لتُشرّع كما هي في عهد هولاند. ولعلّ هذه الإصلاحات تقدّم دليلاً على أنّ ماكرون الذي يريد أن يكون عابراً للأحزاب ويسعى إلى القيام «بثورة ديموقراطية عميقة»، هو من مشجعي إهمال تلك الديموقراطية على حساب تطبيق تعديلات اقتصادية تنفع الشركات الكبرى عبر «تحرير الاقتصاد الفرنسي» أو «تحرير النمو» كما سمته اللجنة. ومن استنتاجات مسيرة ماكرون في وزارة الاقتصاد (آب 2014-آب 2016 )، أنه من «مناصري الشركات» عبر اعتماده لسياسات ليبرالية لا تحظى بالقبول لدى جزء من اليسار في البلاد. وهذا ما يدفع إلى التأكيد أنه يمثل الأوليغارشية «التي تهمل الديموقراطية» لمصلحة سياسات اقتصادية تؤمّن «الثروة لقسم، فيما ليست إلا عقاباً اجتماعياً لقسم آخر»، كما يصفها تقرير لصحيفة «ميديابارت».
هو إذن وافد جديد إلى عالم السياسة، يريد التغيير، لكن تغييراته تلك لن تقود إلا نحو تقوية القائم أصلاً. وإلى جانب تعبير ميلانشون (هولاند لا ينتج إلا الوحوش السياسية)، فإنّ ماكرون العابر للعهود الرئاسية وللأحزاب، سمح له تهاوي «الحزب الاشتراكي» في عهد هولاند وتطبيقه لسياسات لا تشبه «اليسار»، بالخروج كوريث لمعلمه، إنما بحلّة جديدة.