لم يكن خافياً على أحد أنّ فرانسوا فيون حقّق، خلال الأسابيع الأخيرة من حملة الانتخابات التمهيدية اليمينية للرئاسة الفرنسية، تقدماً لافتاً وضعه في موقع «الرجل الثالث» القادر على خلخلة موازين القوى في معترك انتخابي ساد الاعتقاد طويلاً أن صدارته ستكون من نصيب الثنائي جوبيه – ساركوزي (راجع «الأخبار» – عدد السبت). لكن المفاجأة التي تمخضت عنها صناديق الاقتراع، أول من أمس، فاقت كل التوقعات. مفاجأة كانت بمثابة شهادة وفاة للساركوزية. فالرئيس الفرنسي السابق لم ينل سوى 20 في المئة من الأصوات، ليُقصى من المنافسة منذ الجولة الأولى. بينما حصد فيون وحده قرابة نصف أصوات الناخبين (44,2 بالمئة)، ليحل في المنزلة الأولى، متقدماً بأكثر من 15 في المئة عن منافسه في الدورة الثانية، ألان جوبيه. ساركوزي سارع إلى الإقرار بالهزيمة، معلناً - مرة أخرى - اعتزاله الحياة السياسية، كما سبق أن فعل عام 2012، إثر هزيمته أمام فرانسوا هولاند في انتخابات الرئاسة. ولم يفوّت ساركوزي الفرصة لتوجيه ضربة أخيرة إلى غريمه جوبيه، من خلال تأييد فيون في الدورة الثانية من هذه الانتخابات التمهيدية التي ستجري الأحد القادم، معترفاً بأن «فرانسوا برهن أنه الأكثر استيعاباً للتحديات التي تواجه فرنسا».
اكتساح فيون غطّى على الجدل المتعلق بناخبي اليسار الذين دخلوا هذا المعترك الانتخابي اليميني خصيصاً لقطع الطريق أمام ساركوزي. صحيح أن الأصوات اليسارية لم تضع جوبيه في موقع الصدارة، كما كان متوقعاً حتى أسابيع قليلة. لكنها كانت كافية لترجيح كفته على حساب ساركوزي. فقد قُدرت مشاركة ناخبي اليسار بنحو 15 في المئة (600 ألف من مجموع 4 ملايين ناخب)، بينما لم يتعد فارق الأصوات بين جوبيه وساركوزي 300 ألف صوت، ما يعني أن جوبيه هو الذي كان سُيقصى منذ الجولة الأولى، لولا تجنّد ناخبي اليسار ضد ساركوزي!
بالرغم من ذلك، لم يستطع ساركوزي أن يلقي باللوم على «مؤامرة ناخبي اليسار»، لأن مخزون الأصوات اليمينية التي خطفها منه فيون، خلال الأسابيع الأخيرة من الحملة الانتخابية، بلغت ضعف الأصوات اليسارية التي استفاد منها جوبيه. فمن مجموع مليوني ناخب يميني كانوا يؤيدون ساركوزي، منذ أشهر طويلة، لم يصوّت له فعلياً سوى 800 ألف ناخب.
خروج ساركوزي من المنافسة سيجعل غالبية ناخبي اليسار ويسار الوسط يعزفون عن المشاركة في الدورة الثانية، ما يعني أن اقتراع الأحد القادم سيفضي حتماً إلى هزيمة جوبيه (71 سنة)، وبالتالي اعتزاله الحياة السياسية بدوره، مسجلاً شهادة وفاة «الشيراكية»، وريثة الديغولية ذات المنحى الاجتماعي، التي كان حامل لوائها طوال هذه الحملة.
يستند فيون إلى المرجعية الديغولية في مجال معاداة «الأطلسي»

لكل هذه الأسباب، لن تكون التحولات التي يُرتقب أن يفرزها الإعصار فيون مجرد تجدّد أجيال، بل ستكون إعادة ترتيب جذرية لموازين القوى داخل البيت اليميني الفرنسي.
عملياً، كان نجم «اليمين البونابارتي» الذي شكّل عماد الساركوزية السياسية، قد شرع بالأفول منذ انتصار اليسار في انتخابات الرئاسة عام 2012. صحيح أنّ الشطط الساركوزي لا يزال يستهوي بعض قطاعات أقصى اليمين. فقد شهد اقتراع الأحد الماضي مشاركة نحو 8 في المئة من المنتمين إلى «الجبهة الوطنية» المتطرفة، أي نحو 300 ألف صوت صبّت في غالبيتها القصوى في مصلحة ساركوزي. لكن ذلك لم يكف لإنقاذ نزيل الإيليزيه السابق، لأن قاعدة تأييده في صفوف اليمين التقليدي شهدت انهياراً مدوياً، حيث فقد خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة، مع بداية تشكّل الإعصار فيون، أكثر من مليون صوت!
أما «الشيراكية»، فقد بدأت بالتراجع منذ عام 2005، حين أقدم رئيس الحكومة السابق دومينيك دوفيلبان، تحت وقع ما سمته برناديت شيراك «جنون العظمة النيروني»، بإقصاء التيار الديغولي الاجتماعي، ليزج - من دون أن ينتبه – بفرانسوا فيون وأنصاره في أحضان الساركوزية. وخلافاً لما كانت ترجّحه الاستطلاعات، منذ قرابة عامين، لم ينجح ألان جوبيه في إعادة الروح إلى الديغولية الاجتماعية التي حاول أن يتخذ منها منطلقاً لبناء أرضية مشتركة مع قوى الوسط ومع «يتامى اليسار» الذين خيبت آمالهم «الاخفاقات الهولندية».
على أنقاض هذا الدمار المزدوج الذي خلفه الإعصار فيون، سواء على يمينه، بتقويض الساركوزية نهائياً، أو على يساره، بـ«شفط» غالبية أصوات القاعدة الشعبية ليمين الوسط، بات المجال مفتوحاً على مصراعيه أمام بروز تاتشرية فرنسية تتدثر بعباءة النوستالجيا الديغولية.
لا يزال فيون يستند إلى المرجعية الديغولية، في مجال السياسة الخارجية، من خلال معاداة حلف الأطلسي والتصدي للهيمنة الأميركية. لكننا لا نكاد نعثر على أثر لهذه المرجعية في برنامجه السياسي الداخلي، بعد تخلى نهائياً عن الديغولية الاجتماعية، التي خرج من معطفها، أيّام كان مقرباً من فيليب سوغان وجاك شيراك.
اجتماعياً، يحمل برنامج فيون، دون مواربة، لواء «الأغلبية الصامتة» من اليمين المحافظ، الذي هُمّش تحت ساركوزي، ثم تعرض للكثير من الإهانة والاستخفاف، سياسياً وإعلامياً في عهد هولاند، حين حاول التصدي لقانون زواج المثليين. أما على الصعيد الاقتصادي، فإنه يبشر بقطيعة ليبرالية، وفق النموذج التاتشري، من خلال حزمة قاسية من الإجراءات التقشفية والإصلاحات القانونية والضريبية التي تصبّ جميعاً في مصلحة الأوساط المالية المهيمنة:
«تحرير الاقتصاد» من سطوة النقابات ومن السلطة التنظيمية للدولة، من خلال خفض الضريبة على الشركات، وتسهيل آليات الفصل الجماعي للعمال، وتأخير سن التقاعد إلى 65 سنة، ورفع السقف القانوني لساعات العمل الأسبوعية من 35 ساعة إلى 39 في التوظيف العمومي و48 ساعة في القطاع الخاص.
«حمية تقشفية» شديدة تهدف إلى خفض الإنفاق العمومي بنحو 100 مليار يورو، خلال 5 سنوات، عبر إلغاء نحو 500 ألف منصب شغل في الوظيف العمومي.
«إصلاح النظام الضريبي» بما يخدم مصالح الفئات الميسورة ورجال الأعمال، أملاً في اجتذاب رؤوس الأموال للاستثمار في فرنسا. وهو ما سيُترجم من خلال مفارقة فاقعة: إلغاء الضريبة على الثراء التي لا تخص إلا من يزيد رأسمالهم على مليون يورو، وزيادة 2 في المئة في الضريبة على القيمة المُضافة المفروضة على جميع الفئات الاجتماعية، بقطع النظر عن دخلها وقدرتها الشرائية. وهي المفارقة التي لم يجرؤ عليها حتى ساركوزي، الذي اعترف بأنها تشكل «استفزازاً غير مقبول للفئات الاجتماعية الأفقر والأكثر تضرراً من الأزمة الاقتصادية»!