قرار رئيسة حزب «الجبهة الوطنية» الفرنسي مارين لوبن، التي أعيد انتخابها في المؤتمر الأخير الذي عقد في مدينة ليل أمس، تغيير اسم الحزب، يُكرِّس القطيعة مع بعض موروث الحزب السياسي المرتبط بمواقف مؤسسه جان ماري لوبن، مع الحفاظ على أبرز مرتكزاته الفكرية/ السياسية والتحاقه المتأخر بركب توائمه من أحزاب اليمين المتطرف الأوروبي في إيطاليا وإسبانيا والمجر وبولونيا. مارين لوبن تعتبر أنها أقدمت على خطوة حاسمة لاستكمال شروط تأهيل الحزب للحكم يوماً ما على غرار رفاقه الأوروبيين بتأييد أغلبية نسبية من أعضائه (52%) حسب استطلاع أولي. وإذا كان استقطاب المزيد من الناخبين وبناء تحالفات دولية جديدة من بين أهداف تغيير الاسم، فإنّ التأكيد على استمرار التمسك بثوابته لا يقلّ أهمية بالنسبة الى قيادة الحزب التي حرصت على دعوة ستيفن بانون، كبير موظفي البيت الأبيض في الأشهر السبعة الأولى من رئاسة ترامب وداعية تفوّق العِرق الأبيض، الى المؤتمر وظهوره كأحد أبرز نجومه الأجانب.الأهمية الشديدة لخطاب ستيفن بانون خلال المؤتمر، تكمن في ربطه بصعود دور حزب «الجبهة الوطنية» بالسياق العالمي: «أنتم جزء من حركة عالمية أكبر من فرنسا وأكبر من إيطاليا وبولونيا والمجر... دعوهم يتهمونكم بالعنصرية وبترويج الكراهية وبالإسلاموفوبيا واجعلوا من هذه الاتهامات أوسمة شرف لأننا أقوى يوماً بعد يوم وهم أضعف». نحن في الواقع لسنا أمام حركة عالمية، بل حركة غربية تُعبِّر بفجاجة عن هلع الرجل الأبيض، وهي حالة نفسية وذهنية تُسيطر على قطاعات أوسع من أنصار اليمين المتطرف وحده في الغرب. ينجم الهلع عن وضع مستجد ومجهول، أي نهاية العالم كما عرفه الغرب بعدما سيطر عليه حوالى خمسة قرون وأعاد صياغته حسب مصالحه وأهوائه، وظهور نذائر ما سماه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في مؤتمر الأمن والتعاون في ميونيخ عام 2017، عالم ما بعد الغرب.
سيكون لعملية المخاض الطويلة والصعبة التي يشهدها الوضع الدولي، ومن سماته كما تُقِرُّ التقارير الاستراتيجية الغربية تزايد وزن ونفوذ القوى غير الغربية ومنافستها لتلك الغربية، انعكاسات كبرى على المستويات السياسية والاجتماعية في الغرب، ومنها تعاظم قوة أنماط جديدة من التيارات العنصرية والفاشية، كما كانت انتصارات حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار في خمسينيات وستينيات القرن الماضي من المسببات المباشرة في نشوء أحزاب كـ«الجبهة الوطنية».
لا يمكن فصل تشكل حزب «الجبهة الوطنية» العنصري، أو بدقة أكبر نواته الأيديولوجية والسياسية، عن هزيمة فرنسا في الجزائر. وقد حلّ جان ماري لوبن، مؤسس الحزب، ضيفاً على عدة قنوات فرنسية في الأيام الماضية لمناسبة صدور مذكراته أخيراً، التي يسهب فيها بالحديث عن مشاركته كمظلّي في حرب الجزائر. وقد اتُّهِم لوبن من قبل العديد من المواطنين الجزائريين بارتكاب جرائم تعذيب وقتل بحق العديد من المعتقلين، وفي إحدى المرات نسي في منزل أحد ضحاياه خنجره الخاص، وعليه الأحرف الأولى من اسمه، بعد قيامه بتعذيبه حتى الموت أمام عائلته.
هزيمة فرنسا من قبل ثورة المليون ونصف مليون شهيد أدت الى استقطاب سياسي داخلي بين القوى التي قبلت، مرغمة، باستقلال الجزائر


لقد أدت هزيمة فرنسا من قبل ثورة المليون ونصف مليون شهيد الى استقطاب سياسي داخلي بين القوى التي قبلت مرغمة باستقلال الجزائر، وتلك التي عارضته واعتبرت الموافقة عليه خيانة كبرى. تأسست المجموعات التي أنشأت في ما بعد «الجبهة الوطنية» من أوساط ما سمي آنذاك أنصار «الجزائر الفرنسية». وجلّ خطابهم في ما بعد، الموجه ضد الهجرة «التي تهدد هوية فرنسا» والمهاجرين باعتبارهم طابوراً خامساً استهدف في الأساس العمال المهاجرين الجزائريين، قبل أن يشمل أبناء بقية دول المغرب العربي وأفريقيا جنوب الصحراء. وعلى الرغم من أن «الجبهة» اعتبرت أن هذا التناقض هو التناقض الرئيسي، بقي في خطاب رئيسها وبعض رفاقه الأوائل ترسبات من أطروحات عنصرية تجاه اليهود واليهودية كدين، كانت واسعة الانتشار حتى فترات ليست ببعيدة في المجتمع الفرنسي. وقد أدت بعض تصريحاته التي أوّلت على أنها معادية لليهود أو مشككة بالمحرقة الى ردود فعل كبيرة في فرنسا وحتى على مستوى الغرب، وساهمت في عزل حزب «الجبهة الوطنية» نسبياً. هذه التصريحات لا تعني بتاتاً أنه كان معادياً لإسرائيل، فهو أيّد مثلاً في مقابلة أجراها مع صحيفة «هآرتس» الجيش الإسرائيلي خلال اجتياحه الأراضي الفلسطينية في نيسان 2002 وبرر، انطلاقاً من تجربته خلال حرب الجزائر التي شهدت أحياناً معارك في أحياء مكتظة بالسكان، تدمير مخيّم جنين.
الجيل الجديد من القيادات الممثل بمارين لوبن رأى أن القطيعة الكاملة مع هذا الموروث وخطب ود الفرنسيين اليهود وإسرائيل، التي زارتها برفقة أحد قادة الجبهة البارزين، جيلبير كولار، واعتبار أنهم وفرنسا في معركة وجودية مع الأصولية الإسلامية، هي شروط لا بدّ منها لتعبيد الطريق نحو رئاسة الجمهورية في المستقبل. هنا يكمن التغيير الرئيسي في خطاب «الجبهة الوطنية»، أما بقية الوصفات التي يبشر بها كالتخلي عن اليورو كعملة أو الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، فهي ليست جديدة.
لا ريب أنّ اشتداد الصراعات الدولية واستمرار ضمور نفوذ الغرب الذي بات اتجاهاً تاريخياً ثقيلاً، سيضاعف الهلع وقد يفتح حتى الطريق لوصول لوبن وأمثالها الى سدة الحكم يوماً ما، ولكن ذلك سينعكس وبالاً على الغربيين أولاً.