برازيليا | فجر يوم الجمعة الماضي، توافق المجتمعون في «نقابة الحدادين» على رفض «مسلسل الظلم» الذي يستفيد من صمتهم ومثاليتهم في التعاطي مع القرارات القضائية، وأشاروا على دا سيلفا بإطلاق شعلة المقاومة السياسية عبر البقاء في مقرّ النقابة محمياً بالجماهير التي كانت تحتشد أمام المبنى وتهتف «لا تسلّم نفسك». غضب هؤلاء القادة غير المسبوق، أجبر لولا على البقاء في المبنى وتجاوز قرار القاضي سيرجيو مورو، الذي ينصّ على وجوب تسليم نفسه قبل الخامسة من مساء يوم نهار الجمعة.أشار دا سيلفا على «فريق الدفاع» بإدارة مفاوضات مع الشرطة الفدرالية لتمديد مهلة الاعتقال، في محاولة منه لإقناع الصف الأول من مناصريه بضرورة احترام القرارات القضائية «حتى لو كانت جائرة»، وبأن مسيرته السياسية الطويلة لن يختمها بتمرّد يكسر إرادة الدولة ويهشّم مؤسساتها. كان حديث الزعيم اليساري يسقط كالصاعقة على مسامع مساعديه: «أتظنون أنّي سأسهم في سقوط حلمي، وإراقة دماء شعبي؟ إنّ دخولي السجن أحبّ على قلبي من أن أرى شرطياً ينزف أو مواطناً يتألم. إذا كان الثمن حريتي فليكن، لكن من يستطيع هزيمة إيمان راسخ وعزيمة صلبة؟». إصرار دا سيلفا على التوفيق بين إقناع مناصريه والامتثال لأمر الاعتقال، حمله «فريق الدفاع» إلى الشرطة الفدرالية واستحصل على مهلة يوم إضافي لتسليم نفسه.
«اليوم الإضافي» تحوّل إلى مهرجان سياسي، اختلطت فيه الدموع بالذكريات. كانت لمقرّ «نقابة الحدادين» رمزيةٌ استثنائية؛ ففي هذا المكان اعتُقل دا سيلفا ورفاقه قبل ثلاثين عاماً. استذكر الرجل هناك مراحل الاضطهاد التي تعرّض لها إبّان الحكم العسكري، الذي لم ينته بنشوء النظام الديموقراطي، فالبلاد لا تزال تعيش تحت وطأة ديكتاتورية الفساد والتبعية. بلاد سطا عليها الفاسدون، فحموا أنفسهم واستولوا على المؤسسات الرسمية والقضائية، وحوّروا الحقائق، وبدأوا مسيرة الاغتيال السياسي لكلّ من ناهض مشروعهم المدمّر.
تحدث دا سيلفا، بتأثر، عن حلمه في بلد يحقّ فيه للفقير بتبوّء أعلى المناصب أو الاستحصال على وظيفة لائقة. استفاض في الحديث عن حلم قطعته «أيدي الغدر»، فأوقفت فرص الفقراء في العيش الكريم تحت مظلة دولة تساوي في الحقوق والواجبات. افتخر الزعيم العمّالي بأنه الرئيس الوحيد في تاريخ البرازيل الذي لا يملك شهادة جامعية، بل سجلاً من التفاني والإخلاص خدمةً لشعبه في مسيرة نظيفة «لن تدنسها افتراءات» لا تمت إلى الحقيقة بصلة، وتساءل: « بأي جرم تحاكمونني؟ أنا الرئيس الوحيد الذي يُحاكَم بقضية شقة ليست له ولا يمتلكها أحد من أفراد عائلتي. إنكم تكذبون. الشرطة تكذب، والقاضي يكذب، والحقيقة ستظهر لا محالة».
رئيس استثنائي، خرج من الحكم محافظاً على تأييد شعبي يفوق 70%


في نهاية خطابه التاريخي، أعلن دا سيلفا أنه سيسلّم نفسه للعدالة حتى لو سادت حولها الشكوك، علماً بأنّها «عدالة» سارت بسرعة البرق لاعتقال رئيس هو صاحب الفضل في نموّ البرازيل وتطورها، وهو الرئيس الاستثنائي الذي خرج من الحكم محافظاً على تأييد شعبي يفوق سبعين في المئة. كان دا سيلفا يُدرك أنّ القضاء الذي تباطأ في عمله على مدار السنين، سيكون نشيطاً بما فيه الكفاية لإطباق التهمة عليه، لأنّ قرار اغتياله السياسي قد اتُّخِذَ منذ سنوات. قرارٌ أشرفت عليه المخابرات المركزية الأميركية التي تسلمت التحقيق بشكل رسمي وتابعت الملف حتى آخر فصوله، وفق ما كشفه رئيس مركز الشؤون الاقتصادية والسياسية، الباحث الأميركي مارك ويسبورت.
امتثل دا سيلفا لأمر الاعتقال، لأنّ الهدف كان دائماً تصوير حزبه كمنظمة خارجة على القانون. واختار السجن لأن احتجاز حريته لن يمنع حلمه «من التمدد خارج القضبان (إذ لم يعد يُمثّل) شخصاً بعينه، بل فكرة ومشروعاً سيُستكمل رغماً عن أنف السجان».
لكن رغم امتثاله، فإنّ ذلك لم يخفف من نية خصومه في الإمعان في الإذلال، فرُفِض طلب بقاء دا سيلفا في ساوباولو حيث مقرّ الإقامة، وأصرّ القاضي سيرجيو مورو على تحويله إلى مدينة كوريتيبا، تطبيقاً لما أعلنه يوماً في أحد لقاءاته عن عمله «الدؤوب» للإتيان بالرئيس الأسبق «مُقيَّداً» إلى زنزانة أعدّها له بنفسه. إلا أنّ القيادة العمّالية ارتأت أن تكسر، للمرة الثانية، المهلة التي فرضها مورو، وذلك من خلال منع دا سيلفا من الخروج لتسليم نفسه: احتشدت الجماهير وسدّت منافذ المقرّ حتى السابعة من مساء أول من أمس، وهو التوقيت الذي خرج فيه الزعيم العمّالي من باحة خلفية واستقلّ سيارة الشرطة الفدرالية التي اقتادته إلى مقرّها الرسمي في ساوباولو ثم نقلته عبر طوافة عسكرية إلى المطار، وبعدها نُقل مباشرة إلى السجن المخصّص له في المركز الفدرالي لمدينة كوريتيبا.
حقق خصوم الزعيم العمّالي مبتغاهم في خفر عدوهم اللدود، وابتسم الرئيس الحالي ميشال تامر، وهو يرى أنّ العدالة تسير في هوى السياسة التي حصّنته وأغلقت ملفاته المليئة بصفقات الفساد. كذلك انتشى القاضي سيرجيو مورو، بعدما أدى المهمة الموكلة إليه على أكمل وجه. إلا أنّ طريقة تعاطي دا سيلفا مع المسألة حدّت من احتفالية اليمين، إذ إنّه برز كرجل دولة حريص على أمن بلاده واستقرارها. لم يعتب على الفقراء الذين أوهمتهم الحملة الدعائية الشرسة بفساد زعيمهم، ولم يكترث للشماتة التي ملأت عناوين الصحف وشاشات التلفزة ولا لنشوة خصمه القاضي سيرجيو مورو. دا سيلفا يريد من سجنه أن يُمثِّل انطلاقة لمشروع النضال الجديد، الذي قد يختم فيه رحلة عمره، ولكنه حكماً سوف يؤسّس «لوطن جديد».
بدأ دا سيلفا مسيرته في السجن، ويبدو اليوم أنّه ينهيها فيه. وعد الزعيم التاريخي شعبه بأنّ الزنزانة لن تزعجه، وبأنّه كلما استلقى سيغفو بعمق، لأنه «أدى الرسالة بأمانة». وفي الأثناء، سيبقى النظام الانقلابي برئاسة ميشال تامر، عنواناً للمواجهات الآتية.