يبدو أن تغريدات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الأخيرة بشأن ضربةٍ عسكرية محتملةٍ ضدّ سوريا بسبب الهجوم الكيميائي المزعوم، ليست سوى فصلٍ من فصول الفوضى العارمة في البيت الأبيض، بشأن مواضيع خارجية شتّى، كالعلاقة مع روسيا والصين والسياسة التجارية، وكذلك بشأن عدّة مسائل داخلية تواجه الإدارة الأميركية. بالإضافة إلى «طلاقها» مع سياسات الإدارة الأميركية بشكلٍ عام، تحفل تغريدات ترامب بالتناقضات بين مواقف عديدة سابقة أطلقها، وقد لا يمكن تصنيفها في الواقع على أنها أكثر من مجرّد ردود أفعال غاضبة غير مبنية على قرارات فعلية.
بالدرجة الأولى، هذا التداخل والتضارب لقّن الحكومات الخارجية درساً، وهو ألّا تأخذ كلام ترامب على «تويتر» على محمل الجدّ، رغم صعوبة تمييز ما يجب استدراكه وما يجب تجاهله: «أثار ترامب السخرية العام الماضي حينما غرّد قائلاً إنه سيجلس مع الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، لعقد اتفاق، والآن، يُعدّ مستشارو البيت الأبيض للقاء بين الرجلين»، تشير صحيفة «نيويورك تايمز» في مقال.

الرئيس لا يصبر!
يوصّف أحد المستشارين في الجناح الغربي للبيت الأبيض دون ذكر اسمه، الموقف للصحيفة بالقول: «الأمر وكأنّ الجميع يستيقظون في الصباح ويقومون بتسيير الأعمال الموجودة أمامهم»، وكأنّ بهم يقولون: «يا إلهي! برج ترامب يحترق. يا إلهي! سنضرب سوريا... لا يوجد تفكير استراتيجي واضح». هذا يأتي أيضاً نتيجة الانهيار التدريجي لإدارة ترامب، التي لا تعمل بتناغم، ومشتبكة بعدد من القضايا والتحقيقات التي تطاول بشكلٍ غير مباشر الرئيس نفسه، إدارةٌ تحوّلت من فريق عملٍ يصوغ استراتيجيات واضحة، إلى فريق احتواءٍ للضّرر، ينتظر مواقف الرئيس، ليخرج ويبرّرها أو ينفيها أو في أحسن الأحوال، يوجد لها المخارج المنطقية والأقلّ إحراجاً وحفظاً لماء الوجه.
سيل التغريدات المتوتّرة والمترددة التي يكتبها ترامب عكست وضعية رئيسٍ يتصرّف على أساس «إعصار من ردود الأفعال»، ومن دون استراتيجية واضحة يواجه بها عدداً من القضايا الأساسية لعهده، مثل سوريا، السياسة التجارية والتدخل الروسي المزعوم في الإدارة الحالية. مسؤولون بارزون في الإدارة الأميركية تحدّثوا لصحيفة «واشنطن بوست» عن رئيس لا يصبر على مستشاريه الأساسيين ليصدروا رأيهم في المواضيع. تنقل الصحيفة عن أحد المسؤولين قوله إن «القرار أو التصريح يؤخذ أولاً من الرئيس، ثمّ من قبل مستشاريه والمسؤولين في إدارته، الذين يأتون ليخبروه أن ما يتحدّث عنه هو أمر لا يمكن القيام به... وعندما نفشل في إقناعه، نعمل على هندسة سياسة جديدة لتتلاءم مع ما يقوله».

«فاقد التركيز»
هذا التسرع واضح بخصوص سياسة ترامب التجارية، إذ يتصارع الرئيس الأميركي مع نتائج عكسية محتملة بتهديده بتشديد الرسوم والضرائب، بالتحديد في قطاع الزراعة، وهو ما قد يسبب أذىً حقيقيّاً في الولايات النائية التي حملته إلى فوزه الانتخابي، ويتناقض في الوقت عينه مع سعيه إلى إعادة التفاوض على «اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية» بشروط أفضل لبلاده. وخلال الأسابيع الثمانية الماضية، افتعل ترامب حروباً تجارية مع عددٍ من أكبر الدول في العالم، معلناً قرارات جريئة، من دون العودة إلى مستشاريه الأساسيين في تلك المسائل، وفق «واشنطن بوست». عن ذلك، يقول السناتور الجمهوري جون كورنين للصحيفة إن «الرئيس ربما كان يملك بعض الأفكار عن التبادل التجاري لا يشاركه إياها عموماً الجمهوريون».
بالنسبة إلى روسيا، يرى السفير الأميركي السابق لدى روسيا، مايكل ماكفول، أن الكرملين ربما يئس من الرئيس الأميركي، ومن احتمال أن يعمل على إصلاحات العلاقات مع روسيا، فهم يرونه الآن أنه «فاقد التركيز وغير مسيطر على صناعة سياساته».

لا داعي لانتظار المستشارين!
بالعودة إلى موقف ترامب من الضربة ضدّ سوريا، فقد أطلق الرئيس الأميركي، بدايةً، تغريدة أوحت أنّ ضربةً عسكرية بصواريخ «جديدة وذكيّة» باتت وشيكةً جداً، وأن قراراً حاسماً اتخذ في أروقة الجناح الغربي للبيت الأبيض، ولكن فإذا به يعيد التغريد بين ليلة وضحاها، متراجعاً عن كلامه السابق.
بموقفه الأوّلي من سوريا، تخطّى ترامب أيضاً حلفاء الولايات المتحدة، فقد كانت الحكومتان الفرنسية والبريطانية، في موضع دراسة القرار، لا اتخاذه، بينما كانت الإدارة الأميركية قد ذكرت أن واشنطن تنتظر وقوف حلفائها في جبهةٍ موحّدة بخصوص خطواتٍ ضدّ سوريا. بالإضافة إلى تخطّيه لإدارته، في تغريدة ترامب عن الضربةِ ضدّ سوريا، شيء من الغباء العسكري، فهو كمن يحذّر عدوّه ليختبئ ويتخذ الحيطة، قبل أن ينفّذ تهديده. ذلك يعكس بالأساس الفوضى وعدم التنظيم الموجودين في البيت الأبيض، فقد وقف ترامب بعد أسبوع من إعلانه خططاً بسحب كلّ القوات الأميركية من سوريا، ليتناقش مع جنرالاته لاحقاً، هؤلاء اقترحوا عليه إبقاء القوات في البلاد لـ«تدريب» بعض القوات المحلية لعدة أشهر وتحقيق «الاستقرار» في القرى السورية المحررة من «داعش».
لا خروج من سوريا إذاً، هكذا قال المستشارون لترامب، ليباغتهم الرئيس لاحقاً بحديثٍ عن ضربة عسكرية، اضطرت بعده المتحدّثة باسم البيت الأبيض، سارا هوكابي ساندرز، إلى احتواء ضرر تسرّع الرئيس بالقول إن تغريدته لا يجب أن تقرأ كإعلان لضربة وإنه لا يزال يراجع خياراته!
بالمحصلة، يبدو أن ترامب، بكلّ مواقفه وتغريداته المنفصلة عن الواقع المعقّد المرتبط بمشاكل إدارته بالدرجة الأولى، يغنّي موّاله الخاص، أو بهذه الحالة، أغنية فرانك سيناترا: «سأفعل الأمور على طريقتي».