يوم الخميس المقبل، أي بعد ساعات من الآن، سوف تطوي كوبا عهدها بالقيادة الرسمية للبلاد من قبل الشقيقين كاسترو، الزعيم فيدل أولاً، ثم راوول منذ 2006 عملياً. في ذلك اليوم، سوف يتمّ اختيار شخصية جديدة على رأس «مجلس الدولة» بعد انتهاء ولاية راوول (86 عاماً)، فيما من المتوقع أن يبقى الأخير زعيماً للحزب الشيوعي حتى عام 2021.الأرجح أنّ ميغيل دياز كانيل (58 عاماً) المولود بعد الثورة الكوبية، سيتولى المهمة تحت شعار يحلو للكاتب جون أورتيز، الذي يعرف كوبا عن قرب، اختصاره بالآتي: «بعد انسحاب جيل الثورة التاريخي من الحياة السياسية: الثورة». لكن أي ثورة؟
«كوبا الثورة» سعى الإعلام الدولي، ومن يقف خلفه، إلى خنقها مرتين: أولاً حين انتقال السلطة إلى راوول «الذي سوف يعيد العلاقات مع واشنطن ويفتح اقتصاد بلاده على العالم»، وثانياً حين رحل الزعيم فيدل كاسترو في نهاية عام 2016. لا المحاولة الأولى نجحت، ولا الثانية طبعاً.
الإرهاب الفكري الذي بُثَّ قبل عامين منعاً لتكريم الزعيم الراحل «لأنّه ديكتاتور»، كُسِر في غير مكان من العالم. لعلّ أبرز صوت خرج في ذلك الحين، مستنكراً كل تلك المحاولات، جاء من العاصمة الفرنسية، حيث ترأس الزعيم اليساري جون لوك ميلانشون جمعاً أراد تكريم فيدل كاسترو أمام تمثال الزعيم سيمون بوليفار في باريس. مُخلّداً بأسلوبه الخطابي الأنيق ذكرى الراحل «الذي يدعونا مرة جديدة للتفكير بأنّه من سير أبطالنا نغرف الدروس والطاقة التي نحتاجها للاستمرار»، انتقد ميلانشون بنبرة غاضبة ذاك الإرهاب الفكري، قائلاً: «الوقوع في أخطاء الحكم، في متناول الجميع! لكن الصمود، وقيادة النضال حتى النهاية... بالرغم من 600 محاولة اغتيال... فهذا ليس بمتناول الجميع».
«الغدُ كان وعداً... فيدل! فيدل يسير نحو السماء، يتقدمه سيف بوليفار»، أنشد ميلانشون أيضاً.
بما يخصّ راوول، لم يكن يوماً يحوز تصوّراً يأخذ كوبا نحو موائد اللبرلة الاقتصادية؛ مسعاه يكاد يُختصر بفك الحصار عن هذه الجزيرة، المستمر منذ بداية الستينيات!
أمام الصورة التي رُسِمت عن راوول، يُنسى حجم التملق الأوروبي تجاهه منذ وصوله إلى السلطة، بهدف كان «بسيطاً»: الدخول إلى كوبا من باب التجارة، وتحت شعار «إرساء التعددية وحماية حقوق الإنسان» (كان ذلك وسط صمت لا يزال «مدوياً» بشأن معتقل غوانتانامو الأميركي، الذي يقع على أطراف هذه الجزيرة، وتحتله واشنطن). جون أورتيز، يقول: «ما يفهمه أعداء كوبا، وهم كثر، بمصطلح انفتاح، ليس إلا العودة إلى الرأسمالية»، وهذا قطعاً لم يكن عهد كوبا براوول رغم أي انتقادات توجه إزاء ترهّل النظام فيها وإزاء طغيان الشبكات الزبائنية عليها.
اليوم، ليس «طرح السؤال (حول ما إذا كان انتقال السلطة يُمثِّلُ) استمرارية أو قطيعة... إلا إسقاطاً من الخارج، وهو بعيد عن الحقائق. في كوبا مجتمع متعدد، ذو مستوى تعليمي مرتفع، وكنيسة بدأ دورها يزداد، يطلب احتياجات وتطلعات جديدة. (هذه) التغييرات تتطلب تحولات عميقة، ورؤوس أموال خارجية، لها تكلفتها»، يقول أورتيز، مضيفاً أنّ «انسحاب الجيل التاريخي يترافق مع صعود جيل خمسيني إلى السلطة، سيكون عليه الحكم بصورة مختلفة... دياز كانيل ليس كاسترو وليس عسكرياً؛ لن يكون لديه إلا ولايتان، كل منها تتألف من خمس سنوات، وفق التشريع الجديد».
لأنّ «شيئاً لم يبقَ»، تكتسب كوبا وسيرتها معنى ذا أهمية كبيرة


يختتم أورتيز، قائلاً: «بعد الكاسترويَين: الثورة». فكيف تُفهم هذه الثورة؟ أورتيز الذي يصف وسائل الإعلام الدولية «الكبرى» بأنّها تحوّلت إلى «أحزاب سياسية»، استبق خاتمته هذه بالقول إنّ هذا الإعلام بدأ بوصف ميغيل دياز كانيل بـ«الألعوبة» التي ستكون بين يدي راوول. إلا أنّه يقفز فوق هذه النقطة، ليوضح أنّ التحديث الاقتصادي الذي بدأ منذ عهد راوول، ومن المتوقع أن يستمر في عهد خليفته، «هو بمثابة تحوّل عميق في أطوار الثورة... ينبغي عليه المحافظة على الاستقلال والسيادة، والمحافظة على المكتسبات الاجتماعية، والثقافية، والتربوية»، مضيفاً أنّ «تاريخ 19 نيسان، لن يُمثِّل قطيعة، وانقلاباً، ولكنّه سيشكّل استمرارية لتلك السياسة وبحثاً عن إجماع أوسع في مواجهة سياسة دونالد ترامب (القريبة من سياسات) الحرب الباردة».
قد يُنظر إلى هذه اللغة على أنّها خشبية، لكن باستعارة من إحدى أغنيات الفنان التحرري ليو فيري: «كلّ (الأفواه) من الخُفَراء... لم يبقَ شيء»... ولأنّ «شيئاً لم يبقَ» تكتسب كوبا وسيرتها معنى ذا أهمية كبيرة، «نحتاج إليه للاستمرار».
الاستمرار في ظل المعارك التي يفرضها العالم الحالي، لا يكون بلا كوبا المُقبلة على مشهدها السياسي الجديد، ولا يكون بلا طيف زعيمها الراحل قبل عامين، وسحره. «يقول أعداء فيدل كاسترو، عنه، إنّه كان ملكاً غير متوج... وهم محقون في ذلك، ويقول أعداؤه إنّه لو كان لنابليون صحيفة مثل «غرانما»، لما علم أيّ فرنسيّ بالكارثة في واترلو، وهم محقون (أيضاً). يقولون إنّه مارس الحكم من خلال التحدث كثيراً والاستماع قليلاً لأنّه كان معتاداً الصدى أكثر من اعتياده سماع الأصوات، وهم محقون في ذلك»، وفق الكاتب الأوروغواياني إدواردو غاليانو، الذي يستدرك بالإشارة إلى أنّ ما لا يقوله هؤلاء، هو أنّ «الثورة الكوبية التي عوقبت لارتكابها جريمة الكرامة، هي ما استطاعت أن تكون عليه وليس ما تمنت أن تكونه، وهم لا يقولون إنّ الجدار الذي يفصل الرغبة عن الواقع اشتد ارتفاعه وامتداده بسبب الحصار الإمبرياليّ الذي خنق ديموقراطيّة على الطراز الكوبيّ، وعسكر المجتمع، ومنح البيروقراطيّة أعذاراً للتبرير وللاستدامة».
لغاليانو رمزية خاصة، فهو اشتهر على نطاق عالمي حين حمل هوغو تشافيز، كتابه «شرايين أميركا اللاتينية المفتوحة»، ليهديه إلى نظيره الأميركي باراك أوباما، حين التقاه عام 2009. أما ما يقوله غاليانو في مقالته بعنوان «فيدل كاسترو: ما لا يقولونه...»، فلعلّ أهميته تكمن في أنّه لا بدّ من الاستعانة به في مواجهة من يعتبر راهناً أنّ «أسطورة الثورة التي قادها كاسترو، هي فقط للسياح، لإنّها لم تعد تحمل الأحلام للكوبيين»، والحديث هنا هو للأكاديمية في «جامعة جنيف»، ألين هليغ.
حتى إذا كان كلام الأخيرة صحيحاً، فمعارك هذا العالم كثيرة، كما أشباحه، وعليه «لا يجب الانخداع فيها، كما لا يجب الصراخ مع الزمر»، يدعو جون أورتيز، في مقالة أخيرة.