القرن الماضي، كان قرناً للأمل بالتغيير الكامل والجذري في العالم. هذا الأمل كان يُحرّك الحركات الثورية، والتحررية، والوطنية المناهضة للاستعمار. فيدل كاسترو، وكوبا، شكلا منذ نهاية الخمسينات، علامة فارقة ضمن هذا الصرح الحالم بالتغيير. ذاك الأمل بدأ يخفت تدريجاً منذ الثمانينات، وتحديداً عقب انهيار الاتحاد السوفياتي في حدث جعل البعض يُبشّرون بـ«نهاية التاريخ». عشر سنوات بعد ذلك، سيضخّ «اليسار اللاتيني» دماً جديداً في ذاك الصرح، قبل أن يحاصره الأميركيون. الشقيقان كاسترو، كانا حاضرين في قلب ذاك العالم، قبل أن يغادر فيدل، وهو صاحب أكثر الشخصيات كاريزماتية في القرن العشرين، عام 2016، وقبل أن يسلّم راوول أمس، رئاسة البلاد لخليفة ينتمي إلى جيل وُلِد في كوبا «ما بعد الثورة».منذ بداية التسعينات، كان فيدل كاسترو، يُصوّر على أنّه زعيم كاريزماتي لجزيرة تحكمها أيديولوجية ميتة. نسي الجميع «كوبا الثورة» الملهمة لحركات التحرر، وباتت النظرة إليها محكومة بالحنين إلى زمن لن يعود.
في ذلك الزمن، تفاعلت كوبا مع المتغيرات بعد انهيار «الأخ الأكبر»، أي الاتحاد السوفياتي، الذي بلغت التبادلات الاقتصاديّة معه، عام 1989، ما يُقدَّر بـ85 في المئة من مجمل التبادلات الكوبيّة، وكان تفككه كارثة حقيقية، حلّت في توقيت سيء. تراجع الناتج المحليّ الإجماليّ للجزيرة بحوالي النصف، وطاولت الأزمة كلّ شيء تقريباً: انخفض الانتاج الصناعيّ إلى 15 في المئة من قدراته، تقلّص انتاج السكر إلى النصف في ثلاث سنوات، تضرر قطاع النقل وانتاج الكهرباء، وغيرها.
سيقود راوول القرارات ذات الأهمية الكبيرة «في الحاضر والمستقبل» (أ ف ب )

التفاعل مع المتغيرات كان من المؤشرات التي تفيد بأنّ الحياة لا تزال تنبض في كوبا. في حينه، جرى إعلان «مرحلة خاصّة في زمن السلم» عام 1990، وتم بموجبها اعتماد سياسات اقتصادية منفتحة، للمرة الأولى في تاريخ البلاد منذ نجاح الثورة. وصل توصيف تلك السياسات، إلى القول إنّ كوبا فرضت على نفسها إجراءات شبيهة بتلك التي يفرضها «صندوق النقد الدوليّ» على الدول، حيث مست الاقتصاد السياسيّ، التنظيم الاجتماعيّ، والأيديولوجيا. لكن يُنسى أنّه لإنقاذ الثورة ومكتسباتها، أُعلِنت إجراءات رديفة مثل «خطة الطعام» التي هدفت إلى تحقيق اكتفاء ذاتيّ بتطوير استغلال الأراضي الزراعية التابعة للدولة.
لحسن الحظ، أنّ انهيار «الأخ الأكبر»، سبقه بعامين التخلي عن «نظام الإدارة الاقتصاديّة والتخطيط» شديد المركزيّة، وبدأت البلاد في محاولة تنويع الاقتصاد، بخاصّة بدعم السياحة. ومنذ إطلاق تلك الإصلاحات في الجزيرة، وتطورها، صار للقطاع الخاص والتعاونيّ في كوبا أهميّته، حيث يُشغّل اليوم ما يقارب 580 ألف عامل. الانفتاح السياحيّ للبلاد، والتحولات الجزئيّة في «الاقتصاد السياسيّ»، عاملان ساهما أيضاً في خلق نوع من الاستقرار الهشّ، سوف يهدده أكثر تناقص الدعم الآتي من فنزويلا (تشافيز ومادورو) التي تعاني هي نفسها من أزمة اقتصاديّة خانقة.
من بين أعمدة الصمود في ظل ذاك الواقع، أنّه يُحسب للثورة الكوبيّة تأسيسها لنموذج مساواتيّ أنهى الأميّة وجعل التعليم والصحّة والسكن في متناول الجميع، ما أدى إلى تقليص الفوارق الطبقيّة وتيسير الحركيّة الاجتماعيّة، أي أنّه جعل قاعدة الانطلاق متقاربة بين المواطنين، وذلك على رغم أنّ تحقيق مشاريع الثورة بقي محدوداً بعدد من السياقات. (أهمّ هذه السياقات هو الحصار من الولايات المتحدة، والتهديد الدائم بالتعرض لغزو عسكريّ منها، علماً أنّ النقد يوجه أيضاً إلى عدد من الخيارات الحكوميّة الداخليّة، التي افتقدت في كثير من الأحيان إلى المرونة واستباق التطورات، إضافة إلى محاولة استنساخ النموذج السوفياتيّ، وتعديله في فترات لاحقة على ضوء الأزمات).
بصفة عامة، يوجد نوع من التوافق في الأدبيات حول كوبا على تحقيب تطورها الاقتصاديّ، منذ انتصار الثورة، إلى ستّ مراحل، كما يقول الباحث دوغلاس هاميلتون، في مقالته «إلى أين تتجه الاشتراكيّة الكوبيّة؟»، تبعتها مرحلة سابعة تعيشها البلاد الآن وتنفتح على أفق مرتبط بالتّحولات في النظام السياسيّ.
خبراء في الشأن الكوبيّ، يشيرون إلى أنّ رهان النظام الثوريّ في البلاد مزدوج: هو يريد من ناحية أن يؤسس لنموذج اقتصاديّ يحقق استقراراً اجتماعيّاً، فيما يسعى من جهة أخرى لأن لا يقوم بخطوات متسارعة في ذلك الاتجاه حتى لا يضع وجوده في الميزان. من ذلك مثلاً، إطلاق راوول كاسترو حملة على المؤسسات الخاصّة لمقاومة «المخالفات تجاه القانون والتعديات الأخرى»، وقد جاء ذلك مباشرة عقب زيارة باراك أوباما للجزيرة عام 2016، ودعوته لدعم المستثمرين والرأسماليّة.

ميغيل دياز: «مواصلة الثورة»
اليوم، السلطة في كوبا بصدد التحوّل إلى يد جيل ما بعد الثورة، وقد حرص راوول منذ توليه الرئاسة عام 2008 على تحويل القيادة إلى مسألة جماعيّة، بعدما كانت مبنيّة على كاريزما شقيقه فيدل، ووضع محاذير وضمانات يضمن بها عدم انفلات الرئيس الجديد، ميغيل دياز كانيل، وفريقه. ويبدو الأخير مستوعباً لمعادلة الإصلاح والانفتاح على خطوات، ومن دون إسقاط لمبادئ تقع في محور برنامج الثورة، وعلى رأسها معاداة الهيمنة الأميركيّة.
عقب انتخابه يوم أمس، أعلن ميغيل دياز كانيل في أوّل خطاب له كرئيس لمجلس الدولة، أنّ «التفويض الذي منحه الشعب لهذه الهيئة التشريعية يتمثل في مواصلة الثورة الكوبية في لحظة تاريخية بالغة الأهمية»، مشيراً أيضاً إلى مواصلة الإصلاحات الاقتصادية التي بدأت عملياً منذ التسعينات، أي بخلاف الاعتقاد السائد بأنّ راوول هو من أطلقها.
ما فعله راوول منذ 2008، أنّه اتخذ خطوات «إصلاحيّة» أشد من السابقة، مثل تقليص حجم القطاع العام المنتفخ، فتح متنفسات جديدة لمستثمري القطاع الخاصّ، وتوسيع الحريات الفرديّة على غرار النفاذ إلى الانترنت وبيع وشراء الممتلكات وحرية السفر من وإلى الجزيرة. واتخذ راوول أيضاً منذ قدومه إلى السلطة إجراءات أخرى، منها التقرّب إلى الكنيسة، وإطلاق سراح عدد من المعارضين السياسيين. سياسة التقارب مع أميركا في عهد راوول، أفرزت بدورها عدداً من النتائج، مثل إعادة فتح السفارات، التعاون في الأمن البحريّ و«مقاومة الإرهاب»، وخلق فرص تجاريّة متبادلة، وهذا طبعاً قبل أن يصل دونالد ترامب إلى الرئاسة في الولايات المتحدة.
ميغيل دياز كانيل: التفويض الشعبي هو لمواصلة الثورة الكوبية


دياز كانيل، لم يكن متفائلاً كثيراً بخطوة أوباما وما يمكن أن يلحقها. وفي بداية العام الماضي، أشار إلى «خطّة أميركيّة» تهدف إلى غزو كوبا «سياسيّاً واقتصاديّاً». ووفق ما نقل سكوت ماكدونالد في موقع «ذا ناشيونال انترست»، أبدى خليفة راوول معارضته لأيّ لبرلة سياسيّة، محذراً من الأموال التي تتدفق من السفارات الأجنبية تحت شعار «دعم المجتمع المدني».
من مهمات دياز كانيل المباشرة، السعي «للحفاظ على المكتسبات الاجتماعية، مواصلة الإصلاحات، وتحصين الوحدة الوطنية»، كما يقول الباحث المتخصص ستيفان فيتكوفسكي. هذه المهمات لن تكون سهلة، خصوصاً في ظلّ عودة واشنطن إلى سياساتها العدائية العلنية تجاه هافانا. لكن لهذه المهات، عرّاب، هو راوول كاسترو نفسه، الذي سيبقى أميناً للحزب الشيوعي حتى عام 2021. في هذا الصدد، قال الخليفة أمس: «جئت لكي أعمل وليس لأعد»، قبل أن يؤكد «إخلاصه لتراث القومندان فيدل كاسترو وأيضاً لنموذج وقيم وتعاليم» سلفه راوول كاسترو، لافتاً في الوقت نفسه إلى أنّ الأخير «سيقود القرارات ذات الأهمية الكبيرة في الحاضر والمستقبل».

قلة الخيارات
لحظة انتصار الثورة الكوبيّة عام 1959، كانت الجزيرة بمثابة ولاية أميركيّة غير رسميّة، حيث كانت «الجارة الكبرى» توفر 65 في المئة من واردات الجزيرة وتشتري 75 في المئة من صادراتها، إضافة إلى هيمنة شركاتها على اقتصاد البلاد. نظام كاسترو الذي كان صريحاً في عدائه للهيمنة الأميركيّة بدأ مبكراً في تغيير الواقع، وبحلول عام 1960، أي بعد عام واحد من تولي الحكم، جرى تأميم جلّ الشركات المملوكة أميركياً، إضافة إلى تأميم الأراضي التي تتجاوز مساحتها 400 هكتار. وبانتهاء تأميم الملكيات الأجنبيّة والكبرى، بدأت كوبا في بناء الدولة الجديدة، فأطلقت ما سُمي «النقاش العظيم» وكان محوره مداولة علويّة: «الدوافع الماديّة» أم «الدوافع الأخلاقيّة» لتنظيم المجتمع والاقتصاد وعلاقتهما بالسّلطة، وقد دافع تشي غيفارا في حينه عن التوجّه الأخير في مواجهة الرؤية السوفياتيّة «الماديّة» واعتبر أنّ البناء يكون على «وعي اشتراكيّ» يؤدي إلى انخراط شعبيّ طوعيّ في المشروع.
اليوم، تأخذ كوبا انطلاقة جديدة، على يد جيل جديد «مدني» في غالبيته، لا يحوز على شرعية الثورة التاريخية، وهذا الجيل «لا خيار لديه: عليه مواصلة رفع القبضة الحديدية في مواجهة واشنطن، كما عليه تثبيت التغييرات الاقتصادية التي ينتظرها الكوبيون»، تقول الصحافية المتابعة كاتي دوس سانتوس.



صمود أمام ترامب
لا تتعلق طبيعة علاقات أميركا مع كوبا بالمصالح فقط، إذ إنّ الأخيرة تحولت منذ نجاح الثورة ضد باتيستا إلى مسألة أميركيّة داخليّة، خاصة مع تشكّل جالية كوبيّة وازنة تتركز خاصّة في ولاية فلوريدا، وتمثّل كتلة انتخابيّة مهمّة وتحوي شخصيات مؤثرة مثل السيناتور ماركو روبيو.
في ما يخص موقف ترامب، فإنه قبل نحو عامين، أي عقب زيارة سلفه باراك أوباما لهافانا، والانفراج النسبيّ في العلاقات، كان ترامب مسانداً لخطوة أوباما، لكن هذا الموقف أخذ في التغيّر شيئاً فشيئاً بدخوله السباق الرئاسيّ. ففي تطوّر أوّل، اعتبر الرئيس الحالي أنّه كان من الممكن تحقيق نتيجة أفضل، وصعّد الموقف لاحقاً باعتبار الصفقة تخدم «نظام كاسترو فقط». جدير بالذكر أنّ أوباما مرّر «الصفقة مع كوبا» في شكل مراسيم رئاسيّة، حيث كان الكونغرس حينها يحوي أغلبيّة جمهوريّة معارضة.
رغم وعد ترامب السابق أمام جمع من الكوبيّين المعارضين لنظام بلادهم، أثناء الحملة الانتخابيّة، بالانقلاب على قرارات أوباما بمراسيم رئاسيّة، فإنّه لم يستطع منذ وصوله إلى البيت الأبيض الانقلاب بشكل كليّ على الاتفاق. مع ذلك، فإنّه قام في خطوة أولى بمنع التعامل مع القيادة والجيش والأمن الكوبيّين أو المؤسسات التجاريّة الرسميّة والحد من تدفّق السياح إلى الجزيرة، ثم استغلّ إصابة عدد من العاملين في سفارة بلاده في هافانا بمرض غامض لسحب عدد من الديبلوماسيين وطرد عدد آخر وتشديد إجراءات السفر.