أيّاً كانت السياقات والنتائج العسكرية للاعتداء الذي شهدته الساحة السورية، فإن ممّا يميّزه أنه يأتي بعد اعتداء مطار «تي فور»، وفي ظل استنفار سياسي وأمني، تشهده إسرائيل، في مواجهة استحقاقات مفصلية مرتقبة في شهر أيار. في هذه الأجواء، تهيمن تقديرات على الأوساط الرسمية والشعبية والاعلامية، في تل أبيب، ترى في التحديات التي قد تواجهها إسرائيل، خلال الأسابيع المقبلة، أنّها غير مسبوقة منذ عقود. وأبرز من عبّر عن هذا التصور رئيس مركز أبحاث الأمن القومي، عاموس يادلين، بالقول «لم يسبق أن كان شهر أيار خطيراً إلى هذا الحد منذ عام 1967». في المقابل، لم تخرج تقديرات المعلقين وبقية الخبراء عن هذا المفهوم لجهة حجم التحديات والتداعيات التي قد تترتب على كل منها. ويلتقي هذا الوصف مع ما أدلى به رئيس أركان الجيش غادي أيزنكوت قبل أسابيع، عن أن البيئة الاقليمية الإسرائيلية تتّسم بالغموض، وهو ما يعني ضمناً أنها مفتوحة على سيناريوات واحتمالات متعددة.تتمحور التطورات التي تشكّل المنبع الأساسي للقلق في تل أبيب حول الردّ الإيراني المرتقب، وفق التقديرات الإسرائيلية، على المرحلة الجديدة التي دخلتها الاعتداءات الإسرائيلية في الساحة السورية، وكانت محطتها المفصلية الاعتداء الذي نفذته ضد قاعدة الحرس الثوري الإيراني في مطار «تي فور»، وأيضاً حول السيناريوات التي يمكن أن تلي اعلان ترامب الخروج من الاتفاق النووي.
لم تلبث طويلاً، حتى أدركت إسرائيل أنها عندما حاولت عبر اعتداء «تي فور» الخروج من المعضلة الاستراتيجية التي تواجهها في الساحة السورية، أدخلت نفسها في ورطة جديدة. فلا الضربة العسكرية التي نفذتها قادرة على تحقيق أهدافها الطَموحة في الساحة السورية، وهي تدرك أيضاً أن مواصلة هذا المسار من الاعتداءات سوف يورطها في مواجهة كبرى نجحت حتى الآن في تجنّبها. وتؤكد تقديرات أجهزتها الاستخبارية والسياسية أنّ الرد الإيراني سيضعها من جديد أمام مروحة خيارات مفتوحة على العديد من الاحتمالات، من ضمنها التدحرج نحو مواجهة كبيرة.
قبل اعتداء «تي فور»، كانت معضلة إسرائيل تكمن في تحركها بين حدّين: عدم قدرتها على التكيّف مع مفاعيل انتصار محور المقاومة، وفي الوقت نفسه العجز عن إحداث تغيير جذري في موازين القوى السائدة فيها. وبعد الاعتداء وما تلاه، باتت أمام مروحة سيناريوات لكل منها مخاطره الكبرى. فهي غير قادرة على الاكتفاء بها، بعدما كشف الموقف السياسي الإيراني الحاسم أن طهران ليست في وارد التراجع والانكفاء. وتتخوف تل أبيب أيضاً من مخاطر تراجعها على قوة ردعها وعلى مجمل المعادلة التي تحكم أداءها في الساحة السورية. ويرتفع القلق من تداعيات مواجهة كبرى، إن أصرّت على المضي في رسائلها العدوانية. بعبارة مختصرة، هناك مخاطر إن راوحت إسرائيل مكانها... ومخاطر في حال تراجعت، ومخاطر إذا صعّدت في اعتداءاتها، على الأقل وفق التقديرات الإسرائيلية، وبالتالي عليها أن تختار بين هذه المخاطر التي ترى أن بعضها مؤجل وآخر معجَّل.
مواصلة هذا المسار سيورّط إسرائيل في مواجهة كبرى نجحت حتى الآن في تجنّبها


في المقابل، تحاول تل أبيب كسر هذه الحلقة المفرغة عبر التهويل والإيحاء بأنها على استعداد للذهاب نحو الحرب إن لم تتم تلبية مطالبها. وتأمل أن يؤدي هذا التهويل المقرون بالاعتداءات إلى امتناع إيران عن الرد، وفي الوقت نفسه التراجع عن المسار الذي تسلكه في الساحة السورية، لجهة دعم وبناء قدرات عسكرية تعزِّز قدرات الردع والدفاع لسوريا ومحور المقاومة. لكن ماذا لو واصلت إيران ومحور المقاومة مسارهما التصاعدي في بناء وتطوير قدراتهما في الساحتين السورية والاقليمية، وفشلت إسرائيل في كبح هذا المسار. وماذا لو ردّت إيران على الاعتداء الاسرائيلي، وهو الذي ترجّحه المؤسسة الإسرائيلية بكافة فروعها السياسية والاستخبارية؟
تنتظر إسرائيل إعلان دونالد ترامب النهائي في الثاني عشر من أيار، وترى فيه محطة مفصلية ستكون لها تداعياتها على مجمل الساحة الاقليمية. هي تأمل أن يؤدي هذا المسار إلى إعادة فرض العقوبات على الجمهورية الاسلامية، على أمل أن يضعفها و/ أو يردعها عن خياراتها الاستراتيجية. وتراهن على أن يسهم ذلك في الضغط على الواقع الشعبي الإيراني لتكوين حالة ضغط داخلية على النظام الاسلامي من أجل التراجع عن ثوابته الاقليمية، وتحديداً ما يتصل بتطوير قدراتها الصاروخية، وبالموقف من القضية الفلسطينية ودعم فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين.
مع ذلك، بات واضحاً أن إيران سترد على نقض الاتفاق بالعودة إلى تخصيب اليورانيوم بما يتجاوز القيود التي فرضها الاتفاق. وهو ما سيعتبر من منظور أميركي ــ إسرائيلي تجاوزاً لخطوط حمراء، خاصة إذا ما اندفعت لاحقاً نحو التخصيب بنسبة 20%. هذا الأمر يعتبر من منظور المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وأيضاً في الولايات المتحدة، تقصيراً للمسافة الفاصلة عن إنتاج أسلحة نووية، حتى لو لم تنتج هذا النوع من الاسلحة، كما تؤكد القيادة العليا في طهران.
وهكذا، أقل ما يمكن أن يؤدي اليه هذا المسار، أنه سيحشر تل أبيب وواشنطن حول الخيارات الواجب اتباعها لردع إيران عن الرد المضاد الذي سيعيد الكرة إليهما من جديد. وعلى ذلك، هل يبادر أي منهما إلى توجيه رسائل عملانية عدوانية لتحقيق هذا الردع، وما هو الرد الإيراني في المقابل؟ وهل تبادر إسرائيل إلى ما هو أبعد من ذلك؟ وما هي تداعيات هذا التطور على مجمل الوضع الاقليمي؟ وأيضاً، ماذا عن الرسائل التي سينطوي عليها انكفاء الطرفين الأميركي والإسرائيلي عن خيارات ردعية من هذا النوع في مواجهة طهران؟ وما هي انعكاسات هذا الانكفاء على مجمل المعادلة الاقليمية؟ وكيف ستواجه إسرائيل هذه التداعيات؟ بعبارة أخرى، ترى إسرائيل أن خياراتها محشورة بين التكيّف مع مخاطر إيران النووية من دون عقوبات، ومخاطر مواجهة إيران النووية مع أو من دون عقوبات.
مع ذلك، ينبغي القول إنّ القدر المتيقّن هو أن مفاعيل هذه المحطات، أو بعضها، قد لا تكون فورية بالضرورة، (ولا يمنع أن تكون كذلك)، وربما تتوالى تداعياتها خلال الأسابيع والأشهر التالية. ولكن المؤكد أنها ستشكّل محطات تأسيسية لمآلات هذا المسار الذي سيتبلور في ضوئه المشهد السياسي الاقليمي، ومعادلاته التي ستشكّل عوامل مبلورة للمسار الاقليمي، مع ما ينطوي عليه من تداعيات سياسية وأمنية، وقواعد تضبط مآلات حركة الصراع مع إسرائيل.