لندن | سهرت حشود من الفنزويليين الفقراء ليلتها حول ميرافلوريس (قصر الرئاسة) في قلب العاصمة كراكاس على وقع الألعاب الناريّة وأنغام البوب اللاتيني الصاخبة بانتظار النتيجة المتوقعة مسبقاً للانتخابات الرئاسيّة في فنزويلا: فوز حاسم للمرشح «التشافيزي» والرئيس الحالي نيكولاس مادورو، على متحديه من مرشحي اليمين والتيارات الدينيّة، وتفويض صريح له بإدارة الأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي ترزح تحتها بلاده من خلال فترة رئاسيّة جديدة مدّتها 6 أعوام.بالفعل، أعلنت المفوضيّة العامة في وقت متأخر من الليل حصول مادورو على ما يقارب 68 في المئة من مجموع الأصوات (5.8 ملايين صوت)، في مقابل (1.8 مليون) لأقرب منافسيه، هنري فالكون... لتتصاعد حمّى الاحتفال حول القصر وعبر معظم الأحياء الشعبيّة في العاصمة والأقاليم وتستمر حتى الصباح.
من الواضح أنّ الفقراء المحتفلين كانوا غير سعداء بسوء إدارة الأزمة الاقتصاديّة وغياب الحسم عن سياسة حكومة مادورو الحاليّة في ملفات عدة ليس أقلها التردّد في مواجهة استحقاقات تكريس المشروع الاشتراكي في البلاد، لكنهم كانوا بموسيقاهم ورقصهم وصخبهم يرسلون إلى واشنطن رسالة تحدٍّ واضحة: لن تجعلوا من الجمهوريّة البروليفاريّة مزرعة موز أخرى في أميركا اللاتينيّة. ولعلّ رسالة وزير الدّفاع الفنزويلي إلى الشعب لتهنئته بنجاح العمليّة الانتخابيّة كانت أول إشارة حاسمة إلى المجتمع الدّولي بأنّ الفنزويليين رغم أزماتهم، لن يكونوا بنما أخرى.
فالكون، وهو المرشح اليميني، سارع إلى الاعتراف بهزيمته في صناديق الاقتراع حتى قبل إعلان النتائج النهائيّة، ملقياً باللوم على حزب المعارضة (البورجوازي) لاستجابته لضغوط الولايات المتحدة بالمقاطعة، لكنه في الوقت نفسه أعلن أن التجاوزات في إدارة العمليّة الانتخابيّة تجعلها «غير قانونيّة»، وكأنها لم تكن. وطالب أحد المرشحين الآخرين بإعادتها بالكليّة لما شابها من تزوير ومن أخطاء، لكن المراقبين الدّوليين الـ200، بمن فيهم رئيس سابق للإكوادور ورئيس وزراء سابق لإسبانيا وممثل لمنظمة الوحدة الأفريقيّة، أشادوا بنزاهة الانتخابات وعدّوها مثالاً يحتذى في الشفافيّة واحترام الديموقراطيّة في بلد أصبح قادراً بنحو متزايد على إدارة فعالة للعمليّة الانتخابيّة حتى بالمقارنة بالولايات المتحدة ذاتها التي عادةً ما تشوب انتخاباتها شبهات متعددة، والتي كانت سارعت لرفض نتائج دورة الرئاسيّات الحاليّة حتى قبل إجرائها.
مادورو الذي بدا مبتهجاً عندما أطلّ على المحتفلين، معبّراً عن شديد حبّه للفنزويليين الذين منحوه الثقة، كان متيقناً في قرارة نفسه من أن هذا التفويض الذي حصل عليه سيكون بمثابة الفرصة الأخيرة أمام «التشافيزيّة» السياسيّة لتدارك مفاعيل أزمة التضخّم الهائل التي عصفت بفنزويلا وسبّبت إفقار قطاعات واسعة من الطبقات الشعبيّة (خزّان التشافيزيّة السياسي)، وفقدان البوليفار، وهي عملة البلاد، 99% من قيمتها، ولا سيّما أنّ السلطات الأميركيّة في عهد الرئيس دونالد ترامب تبدو بوارد التصعيد اقتصاديّاً وسياسيّاً وحتى عسكرياً لضمان كسر هيمنة اليَسار على السلطة في فنزويلا منذ عام 1998.
نيكولاس مادورو وحده، يحمل اليوم صليب «التشافيزيّة»


لا يمكن تحميل مادورو شخصيّاً وزر الأزمة التي تقاطعت فيها سلسلة تراجعات في قيمة أسعار النفط (مصدر دخل البلاد الأساسي) مع جولات متعددة من العقوبات الأميركيّة والأوروبيّة وتآمر المصالح البورجوازيّة الفنزويليّة الممسكة بمفاصل القطاعات الاقتصاديّة الأساسيّة مع الإمبرياليّة الأميركيّة. لكنّه منذ تولى السّلطة بعد وفاة الزّعيم التاريخي هوغو تشافيز، لم يقدّم كفاءة تذكر في مواجهة مفاعيل الأزمة، سواء على صعيد إنهاء اشتراكيّة النفط المعتمدة على توزيع عوائد تصدير البترول على الفئات الأفقر، وبناء مشروع اقتصادي متكامل بديل أو حتى على صعيد مواجهة حرب البورجوازيّة المتنفذة ضد الثورة البوليفاريّة من خلال تنفيذ إصلاحات جذريّة في ملكيّة وسائل الإنتاج والتوزيع، واكتفى بضمان استمراريّة المشاريع القائمة لتحسين خدمات الإسكان والتعليم والصحة من خلال طبع المزيد من النقد، وهو ما دفع الأحزاب الماركسيّة الرئيسة في البلاد مثل «الحزب الشيوعي» و«أرض الآباء للجميع» إلى عقد مؤتمرات استثنائيّة كانت تميل بشدة إلى تقديم مرشحين حزبيين للانتخابات الرئاسيّة للتخلص من مادورو الذي سبّب بالنسبة إليهم، بتردده وبسياساته التوفيقيّة، إفراغ التجربة الثوريّة الفنزويليّة من مضمونها التغييري ووضعها والبلاد في مهب رياح الموت الآتي من الشّمال.
لكن يسار فنزويلا أثبت إلى الآن أنّه أكثر تيقظاً من الوقوع في أخطاء الأحزاب اليساريّة في أميركا اللاتينية: سواء في تشيلي عندما سُحقت السلطة اليساريّة المنتخبة بالقوة الغاشمة من خلال انقلاب دموي للجيش خططت له المخابرات المركزيّة الأميركيّة، أو في الأرجنتين عندما اعتبر الماركسيون أنّ كلاً من السلطة اليساريّة والمعارضة اليمنيّة وجهان متماثلان لعملة واحدة، فكانوا السبب بتسلّم اليمين حكم البلاد على طبق من ذهب، أو حتى في البرازيل حيث لم يبذل اليسار جهوداً فعليّة لإقصاء الأوليغارشيّة الفاسدة فانتهوا بالرئيس اليساري مسجوناً والدولة مجدداً في أيدي حلفاء الأميركيين. لذا فقد قبلوا وعود مادورو في برنامجه الانتخابي بأخذ زمام المبادرة تجاه إعادة بناء الاقتصاد الفنزويلي على أسس جديدة وتفكيك أسس المنظومة الرأسماليّة لمصلحة مشروع اشتراكي صريح، ودخلوا مع حزب مادورو ومجموعات شعبيّة ويساريّة أخرى في تحالف عريض يصعّده من جديد إلى السلطة تجنباً للخيار الأسوأ، وهو إعادة زبائن «وول ستريت» إلى الواجهة وقبول سياسات «الدولرة» والتقشف على حساب الفئات الأقل حظاً والخضوع كما كولومبيا أو البيرو لإملاءات الإمبراطوريّة الأميركيّة.
إذاً هي ست سنوات ستكون صعبة على الفنزويليين الذين لا يمتلكون سوى التمني على مادورو أن يكون على مستوى اللّحظة التاريخيّة. لكن اللاعبين الأساسيين سيكونون جميعاً في سباق حاسم في هذه الأثناء: الماركسيّون لبناء بدائل غير انتحاريّة لاستعادة الثورة إذا فشل مادورو في مهمته، والأميركيّون في تصعيد حربهم الطويلة والمستمرة بأشكال مختلفة علّها تدفع الجيش الفنزويلي الموالي لـ«التشافيزّية» نحو القيام بانقلاب عسكري يقصي اليسار، كما اليمين الفنزويلي الذي يرى أنه رغم فشله في هذه الجولة فإنّه بتعاونه اللصيق مع الأميركي قد يجنّب البلاد حالة الفوضى الخطرة التي يرى أن «التشافيزيين» يمضون بالبلاد إليها.
نيكولاس مادورو، وحده، يحمل اليوم صليب «التشافيزيّة» وآلام الفنزويليين ويمضي على درب الجلجلة، بينما توارى الحلفاء والصامتون، وكثرت سكاكين الأعداء. معجزة فقط يمكن أن تنقذه، ولديه ست سنوات لانتظارها ما لم يقرر «سيناتورات روما» إرسال جنود أميركا اللاتينية المستأجرين إلى كراكاس فوق بحر من الدّماء لإنهاء الحالة المعادية للهيمنة التي طالت قليلاً في حديقتهم الخلفيّة.