لا شيء مستبعدٌ في بروكسل، من الجفاء السائد حتى الطلاق البائن، ولكن الأتراك لم يهجروا حتى الآن بيت «حلف شمالي الأطلسي» (الناتو) الذي كانوا يرفدونه حتى صيف محاولة الانقلاب عام ٢٠١٦، وقبل حملات عمليات التطهير التي ستليه، بـ ٤٠٠ ألف جندي، كانوا يشكلون آنذاك القوة الثانية للحلف، والظهير الجنوبي الذي كان يطبق كماشته النووية من حصون صواريخ «انجيرلك» الأميركية، على الاتحاد السوفياتي، خلال الحرب الباردة، وروسيا فلاديمير بوتين اليوم. لكن التباعد التركي مع الحلف، وليس الطلاق بينهما الذي لا يزال مجرد رهان، هو أقصى ما يسعى إليه بوتين في التقارب المستمر مع نظيره رجب طيب إردوغان. من أجل استقطاب تركيا، يواصل الروس تقديم المزيد من التنازلات لها في سوريا تحديداً، إذ سمحوا للقوات التركية بالتوغل في إدلب وريف حلب الشمالي من دون وجود أي ضمانات معلنة بسحبها لاحقاً، وخصوصاً أن إردوغان لا يتوقف عن ترداد أنه لن ينسحب من سوريا قبل القضاء على الإرهابيين، بل طلب الروس من الجيش السوري الانسحاب من تل رفعت لكي يتمكن الأتراك من وصل المناطق السورية المحتلة شرق الفرات بعضها ببعض، ثم الوصول إلى منبج بعد عفرين، والقضاء على من تبقى من قوة لـ«حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي» شرق الفرات، وذلك كله على خطى إتمام خريطة الطريق الأميركية ــ التركية القاضية بإدارة مشتركة للمدينة السورية، التي احتلتها تركيا بموافقة روسية وأقامت فيها قاعدة عسكرية، كما فعلت في عفرين التي باتت ترتبط بوالي غازي عينتاب.
مصادر خاصة قالت لـ«الأخبار» إن تململاً يسود أركان «حلف الأطلسي» إزاء ما يصفه ضباط «الناتو» بـ«العرقلة التركية المتواصلة لمبادرات الناتو». لم يعد أي من الطرفين، بروكسل أو أنقرة، يتظاهر بأن العلاقات بين الجانبين على ما يرام. وقد تكون تركيا حصان طروادة الروسي داخل قلعة الحلف، إذ يشكو الضباط الأميركيون في بروكسل، وفق مصدر غربي، من أن الأتراك، منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز ٢٠١٦، والتقارب مع روسيا، يشلّون كل المبادرات، وخصوصاً ما يتصل بضم المزيد من البلدان في إطار سياسة الشراكة التي ينتهجها «الناتو» تجاه جيران لم يستكملوا شروط العضوية، وأيضاً إبطاء عمليات التوسع.
وصحيح أن لا جنرال يمثل «الجيش الأطلسي الثاني» في القيادة العليا، ولكن جيشاً من العقداء الأتراك ينتشر على كل مستويات القيادة، وفي أجهزة «الناتو» ويعرقلون عمله. وإذا كان من المستبعد أن تخرج تركيا من «شمال الأطلسي»، فإن بقاءها بين جدرانه بات إشكالياً في نظر بعض الجنرالات، فمجرد المساكنة التركية ــ الأطلسية ستكون خطراً على الحلف نفسه في حالة الحرب، كما أن هناك في القيادة من يرى أن الأتراك لن يبقوا طويلاً، وأن من الأفضل للجميع أن يغادر هؤلاء بروكسل، بل أن يطردوا منه. فالخوف كله أن يشكل الفيتو التركي خطراً على عمليات الحلف، ويشلها في حال نشوب أي نزاع مع روسيا يتطلب رداً سريعاً، لن يكون بمقدور «الناتو» تنفيذه، وقد عبر الأخير عن استيائه عبر رفضه طلباً رئاسياً تركياً باستقبال اجتماع قادة دول الحلف في قمة تموز المقبل.
ربما بقاء تركيا في الحلف مجرد ورقة مساومة مع الإيرانيين والروس


ذروة الريبة والعرقلة أثارها الإصرار التركي على صفقة صواريخ «الأس ٤٠٠» الروسية، فالجناح الجنوبي للحلف لن يكون قادراً فحسب على استكمال بناء قبته الصاروخية في مواجهة أي هجوم روسي، بل إن المنظومة الروسية المتطورة قادرة على جمع معلومات عن عمليات تحليق طائرات الحلف ورصدها في أماكن نشره، كما سيكون بوسع الروس اختراقها أينما نشرت ونقل ما فيها من معلومات في الشبكة الصاروخية المنتشرة من كالينينغراد على البلطيق حتى إيران. الثغرة الأمنية كبيرة، والثغرة الاستراتيجية في دفاعات «الناتو» أكبر، لأن من غير الممكن تقنياً دمج الأسلحة الروسية في منظومة القبة الصاروخية الأطلسية الغربية.
لكن ما يقضّ مضاجع «الحلف» هو أن تلجأ تركيا إلى شراء المقاتلة الروسية «سوخوي ٥٧» بعدما أوصى الكونغرس الشهر الماضي بمنع بيعها طائرة «الإف ٣٥»، بسبب اعتقالها القسيس الأميركي أندور برانسون واتهامه بمساعدة «العمال الكردستاني»، وأيضاً بسبب صفقة صواريخ «الأس ٤٠٠». الأتراك يخشون أن تتحول التوصية إلى قانون مبرم، والمحاولة الأخيرة جاءت من إردوغان قبل أيام، مهدداً بأن يولي وجهه شطر موسكو مرة أخرى. الرئيس التركي قال: «إذا كنا شركاء استراتيجيين، فعلى الولايات المتحدة أن تسلمنا الإف ٣٥».
يكمل المصدر الغربي لـ«الأخبار» أن هناك من يعتقد في بروكسل بأن إردوغان يساوم الروس على استخدام الفيتو في قلب الحلف، بل إن بقاءه في الأخير «يأتي لمواصلة الإمساك بورقة قوية بيده، للمساومة عليها مع الإيرانيين والروس». ويعتقد ضباط من «الأطلسي»، وفق المصدر، بأن الأزمة لن تطول، وأن الأتراك سيخرجون من القيادة المندمجة الأطلسية، وهو بمنزلة انسحاب، علماً بأنه ليس هناك فعلياً آلية واضحة للانسحاب من الحلف، ولا يتوقف الأتراك أنفسهم عن تكرار تمسكهم بالبقاء فيه.
ولا يرتبط تدهور التحالف التركي ــ الأطلسي إلى مساكنة بالتقارب مع روسيا فحسب، بل إن القنوات القديمة أقفلت بعدما شملت عمليات التطهير داخل الجيش التركي الأخيرة معظم الضباط الذين تولوا هذه المهمة في الماضي. وتتعدى آثار عمليات التطهير مجرد العلاقة المتدهورة مع الحلف إلى ضمور قوة الجيش الثاني فيه، إذ تم عزل ٤٤% من جنرالات القوة البرية، و٤٢% من جنرالات القوة الجوية، و٥٨% من أمراء البحر. كذلك، أخرج من الخدمة ١٥٠ من أصل ٣٢٤ جنرالاً، وطرد الجيش ٧٧% من أركانه، وهبط ضباط الصف في الجيش من ٣٢٤٥١ إلى ٢٥٧٢٨. وليس تفصيلاً أن القوة الجوية التي تمتلك ٣٢٠ مقاتلة فقدت ٢٨٠ طياراً من أصل ٦٤٠ كانوا في الخدمة قبل انطلاق «التطهير».
إن أزمة العلاقة مع «الناتو» قد تتفاقم، لأن ما بعد التطهير الذي يقوده إردوغان، يستند إلى إعادة بناء الجيش وهيكلته بالتحالف مع كتلة من الحرس القديم، من الضباط القوميين ذوي التوجهات الأوراسية المعادية لـ«الأطلسي». وبعض هؤلاء اتهموا بالتورط في مؤامرة «ارغنكون» التي اعتقل فيها جنرالات ومدنيون «كماليون» عام ٢٠٠٧، كانوا يعدون خطة للانقلاب على حكومة «العدالة والتنمية». والتطهير وإعادة البناء والهيكلة شرط لا بد منه لإعادة التموضع بين الكتلة الأوراسية، والحلف، رغم أن التوجه الأعمق، لدى هذه المجموعات، هو الذهاب شرقاً.
إن شبكة مصالح كبيرة روسية تركية تنمو، مع مشاريع السيل الجنوبي، لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا، كما يتجه الروس إلى بناء أول مفاعل نووي تركي في اكويو (في الجنوب التركي)، كما أن أنقرة وموسكو معاً تشكلان حلقة من مشروع طريق الحرير الصيني، المقدر بمئات المليارات من الدولارات. وتزداد أهمية هذا الخيار بترافقه مع الخيبة الكبرى من الاتحاد الأوروبي وإغلاقه نهائياً الأبواب أمام انضمام تركيا إليه. وإذا ما نظرنا إلى الانزياح التركي الاستراتيجي في العلاقة مع «الأطلسي» وروسيا والولايات المتحدة، واتساع عمليات التطهير التي تلت المحاولة الانقلابية الفاشلة قبل عامين، يمكن عندئذ استيعاب الخلفيات والأهداف التي كان يصبو إليها الانقلابيون، والولايات المتحدة، والأخيرة اتهمها إردوغان بالوقوف وراءهم، فضلاً عن إيوائها فتح الله غولن، مرشد المجموعة الانقلابية وعرابها.