لندن | لم تعد مسألة مفاوضات «البريكست» بشأن خروج محتمل لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي أولوية كبرى في أروقة مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل هذه الأيّام، إذ إنّ الجميع مشغول بإدارة الأزمة المتفاقمة التي أفرزتها الانتخابات الإيطاليّة العامة في آذار الماضي والتي منحت تحالفاً لقوى الأحزاب اليمينية ذات النزعات الفاشية أغلبيّةً لتشكيل حكومة استُدعي لتسلمها بعد شد وجذب مع الرئاسة الإيطاليّة، استمر لـ 88 يوماً، أستاذ قانون غير معروف سياسياً، هو البروفسور جوسيبي كونتي (53 عاماً).وقد سارع دونالد تاسك، رئيس المجلس الأوروبي، إلى توجيه رسالة مفتوحة إلى كونتي فور حصوله على ثقة البرلمان، يتمنى فيها عليه ألا ينخرط في تنفيذ سياسات معادية للاتحاد الأوروبي، متحدثاً عن «تحديات مشتركة يواجهها الأوروبيون وتحتاج إلى تضامن الجميع أكثر من أي وقت مضى». لكن كونتي يعلم قبل غيره أنه سيتعين عليه تنفيذ بعض السياسات، على الأقل، التي انتُخب على أساسها تحالف «حزب الرابطة» و«حركة الخمس نجوم» الحاكمَين، وهي تتضمن بالضرورة حزمة من الإجراءات لإيقاف استقبال اللاجئين وترحيل قسري جماعي لمئات آلاف منهم، وتحويل الميزانيات التي تنفق عليهم (وتقدّر بخمسة مليارات سنوياً) إلى مشاريع لإيجاد فرص عمل للإيطاليين العاطلين من العمل. كما أنّ كونتي يعلم أنّ لهجة توسك التصالحيّة ليست سوى غطاء دبلوماسيّ لتوجهات بروكسل الحاسمة في منع خسارة الركن الإيطالي من المعادلة الأوروبيّة، والتي أصبحت أكثر صلابة بعد قرار بريطانيا الدخول في مفاوضات لترك عضوية الاتحاد، وهو ما تبدى في الضغوط الهائلة على الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، لرفض قبول حكومة كُلّف بتشكيلها قبل كونتي البروفسور باولو سافونا، وهو أكاديمي آخر لم يُسمع به من قبل في الأروقة السياسيّة، نتيجة لاقتراح الأخير شخصية معادية لـ«اليورو» لتولي منصب وزير المال.
على الرغم من أنّ الدستور الإيطالي يمنح ساكن «قصر كيرينالي» الرئاسي في روما حق النقض على تشكيل الحكومات، فإنّه لم يسبق لرئيس إيطالي منذ إقرار الدستور الحالي للبلاد في 1948 أن اعترض على تشكيل حكومة تحظى بالأغلبيّة، وهو الأمر الذي استهجنته معظم الأطراف السياسيّة الإيطاليّة بوصفه تحدّياً للعمليّة الديموقراطيّة وخضوع لهيمنة بروكسل المتهمة بأنّها تدعم تبني الخيارات الديموقراطيّة عندما تكون مخرجاتها متوافقة مع سياساتها فحسب.
حكومة البروفسور كونتي وإنْ بدت شكلياً كأنها صيغة تعايش مقبولة بين جميع الأطراف، ولا سيّما لناحية تولي إينزو ميلانيسي، وهو الوجه المقبول أوروبياً، منصب وزير الخارجيّة، إلا أنها بشكل أو بآخر إعلان رسمي عن تولي تيّار الشعوبيّة اليميني المتصاعد عبر القارة لأول حكومة في غرب أوروبا، وانتقال المواجهة الشعبيّة ضد الاتحاد من مستوى الأحزاب المحليّة والصحف إلى أروقة السلطة.
اليسار الإيطالي يكاد يقف على الهامش في هذا الصراع المستجد


وعلى الرّغم من أنّ الاقتصاد الإيطالي أقل حجماً من الاقتصاد البريطاني، فإنّ تبني روما سياسات معادية للاتحاد الأوروبي يمثل خطراً أكبر من إمكان خروج بريطانيا من الاتحاد، بالنظر إلى عضوية إيطاليا في النظام النقدي الأوروبي واعتمادها عملة «اليورو»، الأمر الذي قد يتسبب بهزات اقتصاديّة عبر الاتحاد في الوقت الذي احتفظت فيه بريطانيا دائماً بعملتها الوطنيّة. وليس هناك شك بأن تنفيذ الحكومة الإيطاليّة الجديدة سياساتها الاقتصاديّة الموعودة في تخفيض الضرائب وسن التقاعد وزيادة التقدمات الاجتماعيّة للعاطلين من العمل ستدفع باتجاه مواجهة متجددة مع الاتحاد، إذ إنّها ستؤدي حتماً إلى دفع إيطاليا خارج «الحد الأعلى لعجز الميزانيّة» الذي تسمح به قواعد الاتحاد الأوروبي (3%)، وهو ما كان موضوع جدال علني بين ماتيتو سالفيني وزير داخليّة الحكومة الجديدة ورئيس المفوضيّة الأوروبيّة جان كلود يونكر، الذي دعا الإيطاليين إلى «العمل بجد أكثر وأن يكونوا أقل فساداً» كي يصلح اقتصادهم، وهو ما اعتبره سالفيني عنصريّة سافرة تجاه الشعب الإيطالي.
لكن يونكر لم يذكر بالطبع الدور المركزي الذي قام به الاتحاد الأوروبي في خلق المناخات الاستقطابيّة داخل المجتمعات الأوروبيّة التي أفرزت صعود اليمين الفاشي الذي يعاديه اليوم عبر الانخراط الفاعل في الحروب العدوانيّة الأميركيّة في الشرق الأوسط، بداية من غزو العراق، مروراً بالعدوان على ليبيا وانتهاء بالحرب الطويلة المستمرة على سوريا. فقبل هذه المرحلة، كانت الانقسامات في ديموقراطيات الغرب ما بعد الحرب العالميّة تتمحور أساساً حول المحافظة والليبرالية أو بين المستخدمين وأرباب العمل، وغلبت مسائل مثل الضرائب وتوزيع الدخل وبعض المسائل الاجتماعيّة كحق الإجهاض وزواج المثليين على النقاش العام. لكن التصاعد المبرمج للهجة العداء بين الغرب والشرق، ولاحقاً تدفق ملايين اللاجئين من شرق المتوسط وجنوبه نحو أوروبا بسبب الاختلالات الأمنيّة في فضاء أوروبا الحيوي عبر سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان، كما أعمال الإرهاب الدّامي ضد المدنيين في غير بلد أوروبي، كلها جعلت مسائل الهويّة الوطنيّة والعداء للمهاجرين تتصدر خطوط الانقسام المجتمعي في معظم المجتمعات الأوروبية على حساب قضايا العدالة الاقتصاديّة والاجتماعيّة. وهو الأمر الذي يفسّر، إلى حد كبير، وفق دراسات وأبحاث عدة، انتهاء البريطانيين إلى التصويت لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي بسبب قلقهم من الهجرة، وتصعيد موجة الشعبوية اليمينية إلى السلطة في بولندا وهنغاريا، والآن في إيطاليا، إضافة إلى التزايد اللافت لتأييد الأحزاب اليمينيّة المتطرفة في ألمانيا وفرنسا وهولندا وغيرها، بناءً على أجندات معاداة الأجانب والعودة إلى مربّع العنصريّة والعرق الأبيض التي كانت قد خلّفت ملايين الضحايا في حروب القرن العشرين.
اليسار الإيطالي الذي يتمتع استثنائيّاً بتاريخ عريق في النضال ضد الفاشيّة يكاد يقف على الهامش في هذا الصراع المستجد بين التيار الشعبوي اليميني والمركزيّة الأوروبيّة، إذ إنّ السياسة الأميركيّة التي تحكمت بإيطاليا ما بعد الحرب العالميّة الثانية قضت دائماً بدعم تحالف متين بين القوى الرجعيّة والمافيات بغرض استبعاد اليسار من الحكم بطرق مشروعة وغير مشروعة. ولم يساعد بالطبع تخبط اليسار نفسه وسقوطه في فخ سياسات الاشتراكيّة الديموقراطيّة التي تلطف وجه المشروع الرأسمالي من دون أن تعاديه جذرياً في اكتساب ثقة الطبقات الشعبيّة التي فضلت انتخاب سياسيين صريحين في دفاعهم عن حقوق المواطن وإنْ من بوابة مهاجمة «الآخر المهاجر». ولا يبدو أكثر المراقبين تفاؤلاً بعودة قريبة لهذا اليسار إلى أداء أي دور فاعل في لعبة السلطة الإيطاليّة في المدى المتوسط، ناهيك عن المدى القريب.
الجميع بانتظار أولى خطوات البروفسور جوسيبي كونتي في السلطة، والذي كان قد ألقى آخر محاضرة له في جامعة فلورنسا صباح استدعائه لتولي رئاسة الوزراء. اليوم، لم يعد جمهوره مقتصراً على حفنة طلاب جامعيين، بل على قوى متصارعة بأجندات معقّدة ومتقاطعة جميعها تنتظر حلولاً عملية ولا تكتفي بتحليلات نظريّة. فلتنسوا «بريكست» إذاً هذا الصيف. هي إيطاليا التي ستكون في قلب الحدث.