بين الحديث عن المنفعة السياسية التي ينالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستضافة كأس العالم 2018 في بلاده، ومقاطعة بريطانيا الحضور إلى الحدث الرياضي كرسالةٍ سياسية، لم تغِب السياسة على الإطلاق عن أبرز حدثٍ رياضي في العالم. السبب في ذلك يعود أساساً إلى واقع أن البلد المضيف هو روسيا، بكلّ ما بات يحمله هذا الاسم من معنى بالنسبة إلى الدول الغربية، روسيا العدوّ اللدود منذ زمن الاتحاد السوفياتي، حتى زمن فلاديمير بوتين.
فهي روسيا فلاديمير بوتين المتهمة بالتدخل في الانتخابات الأميركية في عام 2016، والمتهمة بتهديد دول «حلف شمال الأطلسي» في شرق أوروبا، روسيا المتهمة بـ«احتلال» شبه جزيرة القرم في عام 2014، والأهمّ من ذلك هي روسيا التي لم تقف في الجانب الغربي عندما اندلعت الأزمة في سوريا. وأخيراً، هي روسيا التي «سمّمت» الجاسوس سيرغي سكريبال على الأراضي البريطانية قبل عدة أشهر.
في خضمّ كل هذه الأحداث التي زادت الشرخ بين روسيا والعالم الغربي، ووضعتهما في منافسة شرسة ذكّرت بالحرب الباردة، جاء حدث كأس العالم كمناسبةٍ للغرب للاستمرار بتوجيه سهامه إلى موسكو، زاد من ثقته انتصار أربعٍ من دول «حلف شمال الأطلسي» وتأهلها إلى نصف النهائي. «حلف شمال الأطلسي» نفسه عمد إلى ذكر ذلك والتفاخر به، إذ بات من المؤكد الآن أن الأطلسيين سينتصرون في مونديال بوتين.
عبّر الحلف العسكري العجوز ذو السبعين عاماً عن فرحته بتأهّل أربع دولٍ من أعضائه إلى النصف النهائي هي بلجيكا وفرنسا وإنكلترا وكرواتيا، في شريط نشر عبر حسابات مواقع التواصل الاجتماعي الرسمية للحلف.
يهنئ «الأطلسي» نفسه بانتصار دوله الرياضي، عبر شريط يمتدّ لعشرين ثانية، صُوِّر في المقرّ الجديد لـ«الناتو» في بروكسيل. إذاً، قسّم الأطلسيون العالم الرياضي بين «حلفاء» منتصرين، و«أعداء» لم يستطيعوا تحقيق نتائج جيدة في «اللعبة الجميلة»، العبارة المستخدمة في الشريط.
لم تخلُ التعليقات على الشريط من السخرية من الرئيس الروسي وهزيمة فريق بلاده أمام كرواتيا، أمس. لكن، ندد كثر بإقحام «الأطلسي» نفسه في كأس العالم: «ارفعوا أيديكم عن كأس العالم! الفرق تمثّل دولاً مستقلة ولا تمثل حلف شمال الأطلسي! كرة القدم وكأس العالم لا علاقة لهما بمنظمة مثيرة للحروب مثل حلف شمال الأطلسي»، علّق أحدهم. في المقابل، رآها آخرون فرصةً لقتال «الحلفاء» في «شمال الأطلسي» لبعضهم البعض.
كذلك، أشار آخر إلى «أن تكون جزءاً من كأس العالم المذهل أمر، وأن تكون جزءاً من منظمة عسكرية إرهابية عفى عليها الزمن، تثير الحروب وتقتل المدنيين، مثل حلف شمال الأطلسي، أمر آخر ولا يمكن الافتخار به!».
رسائل الأطلسي ضدّ «مونديال بوتين» لم تقتصر على هذا الشريط الذي سبقه فيديو آخر هنأ فيه الأطلسيون أنفسهم بمشاركة عشر دولٍ أعضاء في كأس العالم، بل إن الطابع العسكري للحلف تجلّى في إجرائه لتدريبات دورية عشية كأس العالم. وقادت الولايات المتحدة تلك التدريبات العسكرية في الخاصرة الشرقية لـ«حلف شمال الأطلسي» والتي استمرّت من 3 حتى 15 حزيران/ يونيو في دول محاذية لروسيا، شارك فيها 18 ألف جندي من 19 دولة معظمها أطلسية.

مقاطعة «كأس عالم بوتين»
«السياسة والرياضة لا تجتمعان... لكنهما تفعلان دائماً»، هكذا يستهلّ مارك بالمر في مجلة «ذي سبيكتايتر» البريطانية مقالته عن كأس العالم، وتأهلّ إنكلترا للنصف النهائي فيه، معتبراً أنه في حال وصول الإنكليز لنهائي «كأس عالم بوتين» فهذا سيكون «أجمل نصر» ضد روسيا في قضية غاز الأعصاب.
(أ ف ب )

ويشير بالمر هنا إلى قضية الجاسوس الروسي السابق، سيرغي سكريبال، الذي تقول بريطانيا إنه تعرّض للتسمم بغاز «نوفيتشوك» من قبل موسكو، وقاطعت على إثر تلك الحادثة بريطانيا حضور كأس العالم، علماً أن المقاطعة اقتصرت على الحضور السياسي وليس الرياضي. حينها، أعلنت ست دول تضامنها مع لندن ومقاطعة كأس العالم، متخذين أيضاً من هذا الحدث الرياضي العالمي فرصةً للقيام بمزيدٍ من الخطوات ضد روسيا، لكن هذا الموقف المتشدد لم يدم، وبقيت بريطانيا وإيسلندا وحيدتين في المقاطعة. لم يحضر أعضاء الأسرة المالكة البريطانية أيضاً مباريات إنكلترا في كأس العالم، فيما اعتبر وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، أن بوتين سيستغلّ نجاح كأس العالم كما فعل هتلر في أولمبياد برلين عام 1936.
علّق رئيس الفيفا السابق، جوزف بلاتر، ضدّ المقاطعة بالقول إن كرة القدم هي لعبة للشعب، يتابعها الملايين، ولا يجب أن تتمّ مقاطعتها، علماً أن بلاتر الموقوف عن ممارسة أي نشاط خلال 6 سنوات حضر مونديال 2018 في روسيا كضيف للرئيس الروسي.
ليست هذه المرة الأولى التي يتمّ فيها استغلال الرياضة لمواجهة موسكو، فعلى سبيل المثال، حرم الرياضيون الروس من المشاركة في الأولمبياد الشتوي هذا العام في كوريا الجنوبية. حينها، حظرت اللجنة الأولمبية مشاركة اللجنة الأولمبية الروسية في دورة ألعاب بيونغ تشانغ الشتوية بسبب فضيحة منشطات واسعة النطاق طاولت الرياضيين الروس، وسط اتهامات لجهات رسمية في الدولة الروسية بدعم ورعاية منهجية لهذه الممارسات. وصف الرئيس الروسي حينها ذلك القرار بأنه «إهانة» لبلده، فيما نفت روسيا بنحو متكرر وجود أي نظام تنشّط ممنهج برعاية الدولة.

مدرج كالينينغراد
وكأن استضافة روسيا لكأس العالم 2018 لم تكن كافية لاستفزاز الغرب، وجدت مجلة «ذي نيو ريببليك» الأميركية في مدرج كالينينغراد الرياضي الذي استقبل أربع مباريات في وقتٍ سابق، رسالة سياسية وعسكرية من موسكو إلى الغرب. تحدّثت المجلّة في مقال في حزيران/ يونيو الماضي إلى باحث عمِل سابقاً كمفاوض بين الأميركيين والسوفيات في محادثات الدفاع والفضاء في جنيف، وكسفير للولايات المتحدة في جورجيا وكازاخستان، ويليام كورتني، الذي رأى أن «بوتين يريد التباهي بكالينينغراد كقلعة عسكرية قوية ضد نفوذ الناتو في الشرق». تابع كورتني أنه في مدرج كالينينغراد الجديد واللامع، يعكس بوتين صورةً عن المنطقة بأنها أكثر تطوراً مما هي عليه حقاً. يندرج ذلك، وفق المقال، أيضاً في إطار إظهار روسيا لنفوذها على هذا الجيب الذي يعدّ امتداداً لأراضيها في أوروبا. يقع جيب كالينينغراد بين ليتوانيا وبولندا، وأصبح تحت السيادة الروسية بعد الحرب العالمية الثانية، ليصبح ذراعاً روسية ممتدة يمنح موسكو تفوقاً في الجغرافيا السياسية في أوروبا. تعد هذه المنطقة مركزاً لقيادة أسطول البلطيق الروسي، ونشرت فيها روسيا منظومات «أس- 400» للدفاع الجوي ومنظومات «إسكندر» الصاروخية.
يذكر أنه على مدى سنين الحرب الباردة، لعب الجيب دوراً كبيراً في خط المواجهة، فقد كان المقر الرئيسي لقيادة القوات السوفياتية ضد «حلف شمال الأطلسي»، وكان يضم قرابة 300 ألف عسكري من جيش الاتحاد السوفياتي، ليتم استخدامهم كقوات للدفاع أو للهجوم المحتمل ضد أوروبا الغربية.