مرة أخرى لا تضيّع أوروبا فرصة اجتماع زعماء حلف شمال الأطلسي لتبيّن أنّها نادٍ اقتصادي لا قوام سياسياً له. ولكن «الفجيعة» الأوروبية في انعدام الوزن السياسي في مواجهة الولايات المتحدة ومطالب دونالد ترامب التي تكاد تكون عنصراً دائماً في مشهد العلاقات بين جانبي الأطلسي، تظهر مع ذلك أكثر مأساوية من المألوف في انقسام أوروبا في قمة الأطلسي خلال اليومين الماضيين في بروكسل أمام ترامب واستفرداه بالمانيا، محركهم الرئيسي، وصانع توازنهم الاستراتيجي اقتصادياً، وتحميلها مسؤولية الاختراق الروسي لأوروبا وجبهة الأطلسي، وتحولها إلى «رهينة روسية» في أوروبا، على حد قوله.كان لافتا أن ينجلي مشهد السجال في بروكسل عن هجوم وزير الخارجية الألماني على الرئيس دونالد ترامب وتسميته إياه بالاسم وقوله إنّ «سياسات دونالد ترامب الانانية، وأميركا أولاً التي ينادي بها ترامب، هي من هموم العالم الكبرى، توزاي الهموم التي تشكلها روسيا والصين». بل ويبدو المشهد مفارقاً إلى حد كبير في انسياق الفرنسيين، الحليف الأول المفترض لألمانيا، في تأييد دعوات ترامب إلى المزيد من الانفاق العسكري لمواصلة محاصرة روسيا وتمويل المزيد من البرامج العسكرية، في حين يستعد الرئيس نفسه ترامب للقاء الرئيس فلاديمير بوتين، في هلسنكي، للتخفيف من التوتر في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة.
اختار ترامب تكتيك الهجوم على ألمانيا، قاطرة الاتحاد الاوروبي الاقتصادية والسياسية، حيث يشكّل التصويب عليها وإخضاعها مدخلاً لإخضاع الآخرين، طالباً من الأوروبيين، والألمان خصوصاً، المزيد من الانسجام بين إدامة واشنطن المظلة الامنية والدفاعية الاميركية في مواجهة روسيا، وبين استراتيجياتهم للطاقة التي ينحو الألمان الى المزيد من ربطها مع شبكات الأنابيب الروسية، خصوصاً مشروع السيل الشمالي٢، بما يتناقض كلياً مع وجود استراتيجية واحدة في واشنطن تضع الطاقة والدفاع في سلة واحدة لا تنفصل، لتجفيف قدرة روسيا على تصدير غازها ونفطها، ومحاصرتها في القارة الأوروبية بشكل خاص.
سبقت دونالد ترامب إلى اجتماع بروكسل لائحة مطالبه المعروفة بأن تدفع أوروبا للولايات المتحدة فاتورة أمنها، واختار التصويب على ألمانيا. قال ترامب: «إنّ ألمانيا أصبحت رهينة روسيا، وهي تخصص واحداً في المئة من ناتجها الوطني للدفاع، بينما نحن ندفع ٤ في المئة. هل هناك من يعتقد أن ذلك مقبول، الولايات المتحدة تحمي أوروبا بأكلاف كبرى، ومن جهة أخرى هناك من يهاجمها بسبب التجارة، هذا الأمر سيتغير». لا تشكل الدعوة الترامبية إلى زيادة الانفاق العسكري الاوروبي ورفعه الى اثنين في المئة من الناتج الوطني جديداً في هذا المجال، إذ تخصص الولايات المتحدة أكثر من ٣.٨ في المئة من الناتج نفسه للدفاع، أي ما يوزاي موازنات ثلاثة أرباع أوروبا. لم تتوقف الإدارات الاميركية السابقة عن سَوق الحجة نفسها بضرورة أن تتحمل أوروبا المزيد من الاعباء في نطاق الأطلسي ورفع مساهمتها الى اثنين في المئة مع انقضاء عام ٢٠٢٤ . الرئيس الاميركي لم يعد يكتفي بالاثنين في المئة التي لا تزال أوروبا بعيدة عنها نسبياً في إنفاقها العسكري، بل يطالب بأن تحذو دولها حذو الولايات المتحدة، وأن تنفق على التسلح من الآن فصاعداً أربعة في المئة من الناتج الوطني.
يعتقد ماكرون أنّ العلاقة الخاصة بترامب تجعل منه محاور واشنطن الأوروبي

ولكن جديد الدعوة الترامبية هو توسيع الفاتورة لإدامة المظلة الأميركية فوق القارة الاوروبية إلى اشتراط قبول أوروبا بتنازلات تجارية، تتعدى مجرد امتصاص العجز في الميزان التجاري الأميركي، إلى الموافقة على الرسوم الجمركية الجديدة على الصادرات الألمانية من السيارات بشكل خاص إلى السوق الأميركية، بل والذهاب أبعد من ذلك، إذ فتح الرئيس ترامب النار على التعاون الألماني مع روسيا في ميدان الطاقة، وبناء مشروع السيل الشمالي ٢، الذي يسهل تدفق الغاز الروسي نحو ألمانيا مباشرة عبر قعر البلطيق، ملتفاً على أوكرانيا. يطال الابتزاز الاميركي الألمان في مسعاهم لتأمين مصادر للطاقة والغاز، متجاهلاً ارتفاع أسعار الغاز الأميركي عن منافسه الروسي ب٢٠ في المئة، فضلاً عن تحرير روسيا نسبياً من القيود التي تحاول إدارة ترامب فرضها عليها في ميدان الطاقة. لا يأخذ الهجوم الأميركي على التفضيل الألماني للغاز الروسي بالاعتبارات الاقتصادية التي باتت تفرض نفسها على القارة الاوروبية بأثرها، والتي تعتمد في وارداتها من الغاز على شبكات من الأنابيب الروسية بنسبة الثلث. وتبدو تلك الاعتبارات أكثر إلحاحاً في ألمانيا مع نضوب حقول نفط الشمال، والتوجه المستمر داخل الائتلاف الحاكم في المانيا منذ عقدين لإغلاق المفاعلات النووية تدريجياً والاستغناء عنها لمصلحة الغاز، واستبعاد خيار الفحم الحجري الملوّث للبيئة. كل هذه الاعتبارات معطوفة على بناء شراكة روسية ألمانية استراتيجية في ميدان الغاز، تتيح فهماً أعمق للهجوم الأميركي على القاطرة الألمانية للاتحاد الأوروبي.
يُشكّل مشروع أنبوب غاز السيل الشمالي ٢ نحو المانيا، اذا ما تم بناؤه في الأعوام المقبلة، خرقاً روسياً كبيراً في الاتحاد الاوروبي، إذ إنه يستغني عن المرور بأوكرانيا بنزوله إلى قاع البلطيق، ووصوله مباشرة إلى المانيا، متحرراً من معاناته من تقلبات العلاقات الروسية الاوكرانية والابتزاز الأميركي الذي يشهده الخط الروسي العابر إلى أوروبا في الأراضي الاوكرانية، خصوصاً بعدما أصبحت أوكرانيا حليفا للولايات المتحدة، ومرشحاً دائماً لحلف شمال الاطلسي تحت نوافذ روسيا. ومن دون أن يسمي ترامب المشروع بالاسم، قال: «إن ألمانيا باتت تدفع مليارات الدولارات لروسيا لتأمين إمداداتها بالطاقة، وعلينا في المقابل الدفاع عنها في مواجهة روسيا. كيف يمكن تفسير هذا الأمر، هذا ليس عادلاً». ومرة اخرى قدم الاوروبيون مشهداً انقسامياً في تعاطيهم مع المطالب الاميركية.
لم يكن مفاجئاً أن يتخلى الأوروبيون، والكتلة الشرقية منهم خصوصاً، عن التوجه الألماني لإيجاد مصادر جديدة للغاز، وتأمين وصوله إلى قلب القارة عبر شبكات جديدة من الأنابيب، وحماية اقتصادهم من التقلبات الروسية الأوكرانية، وعزل هذا الملف الخلافي الكبير عن استراتيجيات الطاقة والغاز. وكانت بلغاريا قد رفضت عام ٢٠١٤، بتشجيع أميركي، مرور أنابيب مشروع السيل الجنوبي من روسيا إلى دول جنوب أوروبا وألمانيا، وعجلت بالتفاهم الروسي التركي بعد عام من ذلك لتحويل المشروع بأسره إلى مشروع السيل التركي. ومرة اخرى، تأتي الطعنة من حيث لا يتوقع احد. فبينما كانت المستشارة الالمانية انجيلا ميركل تردّ على الرئيس الأميركي بالقول إنّ بلادها تقرر سياستها بشكل مستقل، إذ بدا الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، دعامة المحرك الاوروبي الذي يضمه الى المانيا، أقرب الى الولايات المتحدة في المواجهة مع المانيا. قال ماكرون إنّه متفق تماماً مع الرئيس ترامب في طلبه زيادة الإنفاق الدفاعي الذي ينسجم مع مصالح أوروبا في الدفاع عن نفسها. يعتقد الرئيس الفرنسي أنّ العلاقة الخاصة التي تربطه بالرئيس دونالد ترامب تجعل منه المحاور الأوروبي الأساسي للولايات المتحدة، وتمنحه ورقة قوة في علاقته مع العملاق الألماني، علماً بأنه لم يحصل على أي إعفاء للصادرات الفرنسية إلى الولايات المتحدة، والتي لا تقارن بحجم الصادرات الالمانية بأي حال. كما أنّ الفريق الدبلوماسي الذي يحيط بماكرون يميل بقوة إلى دعم خيار تطوير العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة، ولا تزال بقايا المحافظين الجدد تمارس تاثيراً كبيراً في أوساطه. والتأمل في الاتحاد الاوروبي اليوم يفضي الى الاستنتاج أنّ ما تبقى من مشترك بين دوله هو السياسة المالية التي يقودها اليورو «الألماني»، وسياسة دعم الزراعة الاوروبية. وباستثناء ذلك، لا يبدو لا الأمن، ولا الدفاع، ولا السياسة الخارجية، مشتركاً أوروبياً.



لندن تعرض خطتها لـ«بريكست»
قدمت رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي، أمام البرلمان أمس، تفاصيل خطتها للعلاقة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بعد «بريكست» والتي أثارت تنديد أوساط المال بلندن وأثارت مخاوف من احتمال حدوث شرخ في غالبيتها الحاكمة. وباختصار، تريد الحكومة الحفاظ على سهولة المبادلات التجارية عبر إرساء «جملة من القواعد المشتركة» وتمكين قطاع الخدمات من الابتعاد عن المعايير الأوروبية وإنهاء حرية حركة الأفراد.
وبحسب الوثيقة، فإنّ لندن تريد إقامة «منطقة تبادل حر جديدة للسلع» بغاية الاستمرار في تجارة «من دون احتكاكات» بين المملكة والاتحاد. ومن شأن ذلك أن يتيح عبر إرساء «ترتيب جمركي مبسط» أن يتم «تفادي حدود فعلية بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا» وهو خط احمر مشترك بين بروكسيل ولندن. أما قطاع الخدمات فسيكون موضوع اتفاق جديد يمنح المملكة المتحدة «حرية رسم توجهها الخاص في المجالات الأكثر أهمية في اقتصادها». تعليقاً على ذلك، قالت مسؤولة في القطاع المالي البريطاني إنّ خطة «بريكست» الحكومية «ضربة حقيقية» لهذا القطاع المهم في لندن لأنها تضر بالوظائف وعائدات الضرائب والنمو.