ربما هي أعقد وأهم مهمة ديبلوماسية يقوم بها وفد إيراني منذ زمن، بالقدر الذي تشعر فيه طهران أن المرحلة التي تمر بها الأكثر حرجاً وخطورة. بدا واضحاً أن «رجل المهمات الصعبة» لدى المرشد الإيراني علي خامنئي، مستشاره للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي، قصد موسكو وفي حقيبته ملف هو عبارة عن خلاصة تشاور وتدارس بين مؤسسات القرار في إيران على أعلى المستويات، للأخذ بأنسب الخيارات المتوافرة. ساعتان دخل فيهما ولايتي إلى الكرملين للقاء الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ليخرج بعدهما وفي يده الرد الإيراني، أو الفصل الأكبر منه، على الحرب الأميركية المتجددة ضد بلاده. وبانتظار استكمال مهمة الرجل في شقها الصيني، تكون طهران قد شرعت بتطبيق استراتيجيتها التي وضع المرشد خطوطها العريضة قبل أسابيع، تحت عنوان «التوجه إلى الشرق». وبذلك، تغادر طهران مربع الاعتماد، غير الموثوق والمشوب بالشكوك المتبادلة، على الأوروبيين في التعاون الاقتصادي والتجاري، مُرسِّخةً بدائلها التي تنسجم واصطفافاتها السياسية ومرحلة اهتزاز الاتفاق النووي وعودة الحظر الأميركي.من هنا، بدت زيارة ولايتي متمايزة عن مهمات بقية المبعوثين الخاصين للرئيس حسن روحاني إلى زعماء الدول الصديقة لطهران هذه الأيام، بهدف تقديم وجهة النظر الإيرانية في مواجهة الضغوط والعقوبات الأميركية والانقلاب على الاتفاق النووي. حمل ولايتي في زيارته صفة مبعوث الرئيس مع رسالة خطية إلى نظيره الروسي، ورسالة أخرى موازية، لكن شفهية، من المرشد خامنئي إلى بوتين. وكان الزائر الإيراني استبق لقاءه سيد الكرملين بتصريح وضع فيه مهمته في إطار «الاستراتيجية» و«المنعطف» في العلاقات الإيرانية - الروسية. الأهم ما خرجت به الزيارة، والذي يمكن وضعه في إطار الرد الإيراني الاستراتيجي، أو جزء أساسي من هذا الرد، على الهجمة الأميركية الشرسة ضد نظام طهران، بما من شأنه تفريغ جانب كبير من العقوبات الأميركية من مضمونها، وتقوية الموقف الإيراني في اليوم التالي لدخول العقوبات حيز التنفيذ.
الرسالتان سلمهما ولايتي، أمس، لبوتين في اجتماع حضره مسؤولون من البلدين، ليخرج الوفد الإيراني من الكرملين بتصريحات متفائلة، بعد لقاء استمر نحو ساعتين «وكان بناءً جداً وودّياً وواضحاً»، وفق الانطباع الذي سجله ولايتي. الأخير قال عقب اللقاء إن «العلاقات بين إيران وروسيا قد ترسخت، وستشهد المزيد من التطور مستقبلاً أيضاً». أما المؤشر الأبرز على نجاح اللقاء، وما قد يفضي إليه من تصاعد في التنسيق بين طهران وموسكو، فهو إشارة المسؤول الإيراني إلى أن المحادثات تطرقت إلى إمكان رفع التعاون النفطي، حيث استعرض بوتين أمام الضيف الإيراني إحصائيات تقول إن التعاون في مجال النفط يمكن رفعه «إلى 50 مليار دولار» على شكل استثمارات روسية جديدة، وهو رقم اعتبر المسؤول الإيراني أن بإمكانه «تعويض نشاط الشركات التي غادرت البلاد (هرباً من العقوبات الأميركية)».
جددت واشنطن دعوة حلفائها إلى الانضمام لحملة الضغط على إيران


الصفقة الإيرانية - الروسية، التي عقدها بوتين مع ولايتي، ستشكل مفصلاً بين ما سبقها وما سيلي. وإلى جانب تأثير لقاءات موسكو على العلاقات الثنائية بين البلدين، تخلق الاتفاقيات المرتقب توقيعها وضعية إيرانية أقوى في اتجاهات ثلاثة: مسار المفاوضات مع الأوروبيين، والضغوط الأميركية وفي سياقها ما قد يتبادله طرفا قمة هلسنكي من رسائل، وثالثاً الوضع الاقتصادي الداخلي الذي يسمح تحصينه بالتفاوض من موقع أصلب. وقد بدا لافتاً توقيت الاجتماع، حيث جاء بعد اجتماع فيينا الأخير لوزراء خارجية الدول الموقعة على الاتفاق، وهو ما لا يمكن تفسيره بأن فيينا كانت فاشلة من وجهة النظر الإيرانية، ولم تخرج بضمانات أوروبية كافية. الأرجح أن المقصود إيرانياً كان تأخير اللقاء لعدم استفزاز الأوروبيين، ومن ناحية أخرى حثهم على ترجمة الضمانات الـ11 المعلنة في فيينا إلى أطر عملية، بما يحفظ مكتسباتهم التجارية من الاتفاق النووي.
بيان الكرملين في شأن اللقاء ذكر أن الجانبين ناقشا الوضع في سوريا والعلاقات الثنائية ورسالتَي خامنئي وروحاني. ونقل ولايتي عن بوتين رفض روسيا قرار أميركا فرض عقوبات على إيران، وتشديده على أنها ستقف مع إيران «وستدافع عن حقوق طهران». كما نقل الموفد الإيراني عن خامنئي إشادته بالعلاقات مع روسيا، وتحسنها «باعتبارها شريكاً استراتيجياً»، وتطلعه إلى استمرار هذا المسار.
عملية التحشيد الإيراني للأصدقاء والحلفاء، التي توّجتها مهمة ولايتي، والتي من المرتقب استكمالها في بكين، تقابلها عملية تحشيد أميركية ضد طهران. إذ جدد وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، أمس، دعوته حلفاء الولايات المتحدة إلى الانضمام إلى حملة الضغوط الاقتصادية على إيران. وفق منظور الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فإن المسار المتبع يؤتي ثماره، و«إيران تتعامل مع الولايات المتحدة بقدر أكبر بكثير من الاحترام مما كانت عليه الحال في السابق». ترامب رأى، على هامش مشاركته في قمة «الناتو» في بروكسيل، أمس، أن استمرار هذه الضغوط سيجبر طهران «على السعي لاتفاق أمني مع واشنطن». وبدا الرئيس الأميركي في غاية التفاؤل بنجاح خطته حين قال للصحافيين: «أعلم أن لديهم الكثير من المشاكل، وأن اقتصادهم ينهار. لكن سأقول لكم هذا: في مرحلة ما سيتصلون بي وسيقولون: فلنبرم اتفاقاً. إنهم يشعرون بألم كبير الآن»!