تبدو المصالحة الإثيوبية - الإريترية في ظاهرها تطوّراً إيجابياً يمكن أن يفتح الباب على مرحلة سلام في منطقة القرن الأفريقي، التي لم تعرف الهدوء منذ أواخر التسعينات. لكن التدقيق في المسار الذي تولّدت منه تلك المصالحة يجعلها تظهر وكأنها جزء من تكتيكات أطراف الصراع الإقليمي والدولي المعتمل في هذه البقعة من العالم. وانطلاقاً من ذلك، يظهر المشهد في شرق أفريقيا منفتحاً على احتمالات عدة، ليست الولايات المتحدة التي باتت تتوجّس جدّياً من الحضور الصيني هناك بعيدة منها.أثارت المصالحة «المباغِتة» بين إثيوبيا وإريتريا، والتي أُعلِن عنها في تموز/ يوليو الماضي، الكثير من التكهنات والتحليلات في شأن خلفياتها وأسبابها وآفاقها. بعضهم بدا مفرِطاً في التفاؤل في ما يمكن أن يؤول إليه تطبيع العلاقات بين الجانبين. مبرّره في ذلك مؤشرات عدة، في مقدمها الأجندة التصالحية التي تبنّاها رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، منذ وصوله إلى السلطة في الثاني من نيسان/ أبريل الفائت. لكن آخرين لا يعزلون ما يجري عن ديناميات تصارع القوى المحتدم في منطقة القرن الأفريقي، والذي بلغ ذروته عقب اندلاع الأزمة الخليجية، حامِلاً أطرافاً عدة على رأسها الاتحاد الأوروبي على دقّ ناقوس الخطر، والتحذير من تأثير تلك الأزمة على جهود السلام في شرق أفريقيا.
أصحاب الرأي الأول يعتقدون بضرورة النظر إلى التطورات الأخيرة من منظار أفريقي أولاً، بعيداً من أي مزايدات خارجية، وخصوصاً عربية، من شأنها أن تشوّش على «القرن» وتضع بلدانه في خانة «العبد المأمور». يحاجِج هؤلاء بالمشروع الإصلاحي الذي يقوده آبي أحمد، مضافاً إليه ما يرون أنه وعي متشكل بالمصالح المشتركة بعد صراعات مستطيلة استنزفت الاقتصاد والأمن على السواء، وأدّت بحسبهم إلى تولّد ضغط شعبي متصاعد باتجاه السلام. وانطلاقاً من ذلك، جاءت التنازلات المتبادلة التي قدمتها إثيوبيا وإريتريا والصومال، والتي يُعدّ أبرزها تعهد رئيس الوزراء الإثيوبي بالامتثال الكامل لنتائج قرار لجنة الحدود الأممية لعام 2002، والذي منح الأراضي المتنازع عليها لإريتريا.
صحيح أن المصالحة بين أديس أبابا وأسمرة تأتي ترجمة لسياسة «صفر مشاكل مع الجيران»، التي اعتمدها آبي أحمد في محاولة لإخراج بلاده من عنق الزجاجة، وتحصين الإصلاحات الداخلية المتمثلة بالدرجة الأولى في إعادة المعارضة إلى المشهد السياسي، وفتح حوارات مع القوميات المهمّشة، وإزاحة الطبقة المنتفعة من المؤسستين السياسية والعسكرية. إلا أن ذلك كله يوازيه مسار من التحركات والتدخلات الخارجية، التي لا يمكن في ظلها عزل أي خطوة في «القرن» عن سياقها الإقليمي والدولي.
حرصت أديس أبابا على نفي وجود أي بصمات أجنبية على مشروع تصالحها مع أسمرة، مُشدّدة على أن ذلك المشروع تم بـ«رغبة ذاتية من كلا البلدين من دون وساطة من أي طرف ثالث»، بعدما سرت أنباء عن توسط أميركي - إماراتي بين الجانبين لإتمام المصالحة. نفي يبدو مفهوماً بالنظر إلى حاجة كلا الطرفين إلى الاستثمار في «السلام المفاجئ» بوصفه إنجازاً لهما، وبخاصة آبي أحمد، الذي لم يمضِ على تسلّمه السلطة سوى أشهر معدودات. غير أن تتبع المسار الذي تُوّج بزيارة الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، إلى أديس أبابا، في الـ14 من الشهر الماضي، بعد أيام من زيارة رئيس وزراء إثيوبيا إلى أسمرة، وإعلانه من هناك نهاية نزاع حدودي بين البلدين راح ضحيته أكثر من 80 ألفاً، يشي بأن الأمر ليس بالبساطة التي عبّر عنها أفورقي: «لقد اخترنا أن نسلك طريقاً نعمل من خلاله معاً على تحقيق التنمية والازدهار والسلام، بعد التغلب على مؤامرة الكراهية والانتقام والدمار».
بدت زيارة آبي أحمد إلى الصومال محاولة للتوسط بين مقديشو وأبو ظبي


في الـ15 من حزيران/ يونيو الماضي، زار ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، أديس أبابا، في وقت كان العمل جارياً على تعزيز التقارب مع أسمرة. من هناك، أعلنت الإمارات عزمها ضخّ 3 مليارات دولار كاستثمارات في الاقتصاد الإثيوبي، بينها مليار دولار «تودع في البنك المركزي في أقرب وقت» بحسب ما أعلنت حينها الحكومة الإثيوبية. شكّل ذلك تجلياً لذروة توطّد العلاقات بين أبو ظبي وأديس أبابا، بعدما تمظهر بوضوح في توقيع الجانبين، مطلع آذار/ مارس الفائت (بعد قيام جيبوتي بسحب امتياز إدارة محطة «دوراليه» للحاويات وتشغيلها من شركة موانئ دبي العالمية)، اتفاقية نصّت على تنازل الإمارات عن 19% من حصتها في ميناء بربرة في «أرض الصومال» (غير المعترف بها دولياً) لمصلحة إثيوبيا، مقابل قيام الأخيرة بتطوير البنية التحتية في الميناء.
مساعي أبو ظبي في استمالة أديس أبابا وازتها جهود مماثلة في اتجاه تقوية العلاقات مع أسمرة. في الـ3 من حزيران/ يونيو الماضي، وقبيل 6 أيام فقط من زيارة آبي أحمد إلى العاصمة الإريترية حيث كانت اللحظة التاريخية بسقوط «جدار برلين الأفريقي»، زار أسياس أفورقي أبو ظبي، وأجرى محادثات مع محمد بن زايد انتهت إلى اتفاق على أن تضخّ الإمارات مزيداً من الاستثمارات في مجالَي الزراعة والتصنيع الإريتريين، وتقدّم المساعدة في تطوير البنية التحتية للبلاد، بعدما كانت لعبت دوراً في تحديث شبكتها الكهربائية، وأمدّتها بمساعدات متنوعة، مقابل الاستمرار في الاستفادة من ميناء «عصب» كقاعدة عسكرية لعمليات تحالف العدوان على اليمن، ولاحقاً قيام أسمرة بقطع علاقاتها بطهران، ووقوفها إلى جانب دول المقاطعة في الخلاف مع قطر.
كل تلك المعطيات تجعل من المنطقي النظر إلى المصالحة الإريترية - الإثيوبية بوصفها نتاجاً لعملية دفع سياسية إماراتية، مسنودةٍ بالمال الذي حاولت من خلاله أبو ظبي إغراء المتحاربَين، وحثهما على إنهاء نزاعهما. أما لماذا قد يفعل الإماراتيون ذلك؟ فلأسباب عدة يتصدرها اثنان: أولاً معاقبة جيبوتي، التي تجرأت على طرد «موانئ دبي العالمية» من أراضيها، بحرمانها من عائدات الاعتماد الإثيوبي الكبير على موانئها في عمليات الاستيراد والتصدير (قبل التصالح مع إريتريا، لم يكن لدى إثيوبيا أي منفذ بحري، وهو ما جعلها تعتمد على موانئ جيبوتي وكينيا والصومال والسودان). هذا ما أكدته دورية «أفريكا إنتليجنس» الفرنسية الاستخبارية، نهاية الشهر الماضي، عندما نقلت عن مصدر دبلوماسي في أديس أبابا قوله، إن الدبلوماسيين الإماراتيين ناقشوا مُطوّلاً الاستراتيجية الجديدة التي يجب اعتمادها في ما يتعلق بجيبوتي، مضيفة أن تلك المناقشات خلصت إلى ضرورة إنهاء التوتر بين إريتريا وإثيوبيا، لضمان دور أساسي لميناءَي «عصب» و«مصوع» الإريتريين في التجارة الإثيوبية على حساب جيبوتي من جهة، ورفع وتيرة عمليات التوسع في «أرض الصومال» من جهة أخرى.
انطلاقاً من هذه النقطة الأخيرة تحديداً، يتضح السبب الثاني الكامن خلف اهتمام الإمارات بالتقريب بين أديس أبابا وأسمرة، وهو السعي إلى اختراق الموقف الصومالي الذي بدا في الآونة الأخيرة مائلاً بقوة نحو المحور التركي - القطري، مُشكّلاً بذلك عامل إقلاق للمصالح الإماراتية في العديد من الأقاليم والمواقع، خصوصاً في «أرض الصومال»، التي اتفقت معها «موانئ دبي» عام 2016 على إدارة ميناء بربرة وتشغيله، قبل أن يوقّع الطرفان عام 2017 اتفاقية جديدة تمنح الجانب الإماراتي صلاحية إنشاء قاعدة عسكرية في مدينة بربرة. في هذا السياق، يبدو لافتاً ما أورده مركز «ستراتفور» الاستخباري الأميركي، في الـ26 من الشهر الماضي، من أن زيارة آبي أحمد إلى الصومال، أواسط حزيران الفائت، كانت محاولة للتوسط بين الإمارات وحكومة محمد عبد الله فارماجو. ووصف المركز، في تقريره، مذكرة التفاهم التي وُقّعت بين الجانبين بـ«المبهمة»، خصوصاً أنها تحدثت عن تطوير مشترك لأربعة موانئ من دون تسميتها، ما يزيد الشكوك في دور إماراتي من خلف الستار. ونقل «ستراتفور» عن مسؤولين صوماليين ودبلوماسيين غربيين تأكيدهم أن فارماجو توصّل إلى قناعة، بأن عليه أن يوازن في علاقاته مع كل من الدوحة وأبو ظبي، تجنّباً لتقوية المعارضين من قادة الدول الفيدرالية الصومالية.
هذه الاعتبارات الإماراتية تبدو مساوِقة في جزء منها للاعتبارات الأميركية في النظر إلى منطقة القرن الأفريقي، وإن كان من غير الواضح إلى الآن أي دور لعبته واشنطن في المصالحة بين إثيوبيا وإريتريا، باستثناء ما ذكره «ستراتفور» نفسه من أن مسؤولين أميركيين تدخلوا في المحادثات الدبلوماسية بين الدولتين منذ كانون الثاني/ يناير الماضي على الأقل (قبل أن يتولى آبي أحمد رئاسة الوزراء). وبمعزل عن حقيقة الدور الأميركي، فإن ثمة إجماعاً في واشنطن على ضرورة الاستفادة من التنافس الخليجي في «القرن»، من أجل تحقيق مكاسب للولايات المتحدة، خصوصاً في مواجهة الصين، التي لم يعد نفوذها في جيبوتي خفياً. مبررات كثيرة توردها الصحف ومراكز الدراسات الأميركية لضرورة تبني إدارة دونالد ترامب «السلام الإثيوبي - الإريتري» والعمل على إنجاحه، لكن أهمها وفق ما ترى مجلة «فورين بوليسي» تدشين مرحلة جديدة في العلاقات الأميركية - الإريترية، يمكن أن توطّئ لـ«إقامة قاعدة عسكرية أميركية بديلة»، لا سيما أن جيبوتي، حيث يتمركز عناصر عسكريون أميركيون، «باتت أكثر قرباً من الصين».

«موانئ دبي» ستراجع خياراتها في جيبوتي
أعلنت حكومة دبي، أمس، أن «شركة موانئ دبي العالمية» حصلت على حكم من محكمة لندن للتحكيم الدولي باستمرار سريان الاتفاقية الخاصة بمحطة «دوراليه» للحاويات في جيبوتي، والتي تمنح الشركة حق إدارة المحطة وتشغيلها. وقال المكتب الإعلامي للحكومة، في تغريدة على «تويتر»، إن «المحكمة أكدت أن القانون والمراسيم التي أصدرتها حكومة جيبوتي للتهرب من التزاماتها التعاقدية غير ذات جدوى من الناحية القانونية»، مضيفة أن «موانئ دبي ستقوم، في ضوء هذا الحكم، بمراجعة خياراتها في ما يتعلق بمحطة دوراليه». وكانت «موانئ دبي» هدّدت، في الـ12 من تموز/ يوليو الماضي، بمقاضاة شركة صينية منحتها جيبوتي الحق في الاستثمار في المحطة، بما يسمح بزيادة حجم البضائع التي تتم مناولتها فيها بمقدار الثلث. وقال متحدث باسم الشركة، حينها، إن «استيلاء حكومة جيبوتي غير المشروع على (دوراليه) لا يمنح الحق لأي طرف ثالث بانتهاك شروط اتفاق الامتياز»، مُلوّحاً بأن «المجموعة تحتفظ بحق اتخاذ الإجراءات القانونية كافة، ومن ضمنها المطالبة بالتعويض عن الأضرار المترتبة على تدخل أطراف أخرى أو خرق حقوق التعاقد». وجاء التهديد الإماراتي بعدما دشّنت جيبوتي المرحلة الأولى من مشروع لإقامة أكبر منطقة تجارة حرة في أفريقيا، تنفذه الصين.
(الأخبار)