«كنت أقف في أحد شوارع العاصمة كيغالي وأنظر إلى أبعد نقطة يمتد إليها بصري... كانت على المسافة كلّها جثث مكوّمة فوق بعضها البعض، بحيث يصل ارتفاعها إلى طولي مرّتين، وتلك كانت نسبة ضئيلة فقط من الموتى، الذين من بينهم أمهات يحملون أطفالهم»؛ هكذا وصفت الصحافية الفرنسية جينين دي جيوفاني تغطيتها للحرب الأهلية التي اندلعت في نيسان عام 1994 بين قبيلتي التوتسي، التي حكمت رواندا لقرون، وأغلبية الهوتو، التي كانت قد تولت السلطة من عام 1959 إلى عام 1962 وأطاحت بالنظام التوتسي.قطعت رواندا شوطاً طويلاً منذ أن ارتفعت دعوات استئصال «الصراصير» التوتسية وانتشرت لوائح الإعدام ورفعت المتاريس ونصبت حواجز الذبح على الهوية. وكان البلجيكيون، الذين وضعت رواندا تحت «انتدابهم» عقب هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، قد أدرجوا في بطاقات الهوية التي استخرجوها لسكان رواندا، خانة لتحديد العرق سهّلت تمييز الهوتو من التوتسي وسرّعت عملية القتل الجماعي، التي بدأت من المنطقة المحيطة بالمطار الذي سقطت فيه طائرة كانت تقل رئيس رواندا آنذاك. وبعد نحو عقدين فقط من الإبادة الجماعية، التي راح ضحيتها أكثر من 800,000 شخص خلال 100 يوم، اختيرت كيغالي كأجمل مدينة في أفريقيا في الـ2015، بعد أن زارها أكثر من مليون سائح في الـ2014.
تمكنت «أرض الألف تل» من تجاوز الحقبة السوداء وتحولّت اليوم إلى نموذج للتنمية الاقتصادية في القارة الأفريقية، حتى باتت توصف بـ«سنغافورة أفريقيا» و«وجه أفريقيا المشرق». أما العاصمة، فسطع نجمها على الساحة الدولية وحازت على ألقابٍ عدّة، منها «الأكثر أمناً» في القارّة، و«الأنظف» بين عواصم أفريقيا، و«أيقونة التنمية الأفريقية الحديثة».
كيف نهضت الجمهورية الأفريقية بمنطقة البحيرات العظمى من تحت ركام حرب مكلفة خسرت فيها البلاد 20 في المئة من سكانها، وهجر فيها أكثر من مليون، واغتصبت فيها ما بين 150,000 و250,000 امرأة؟

الحقيقة مقابل العفو
«الحرية، العمل، التقدم» هو شعار رواندا الوطني، الذي بموجبه استطاعت البلاد أن تعيد بناء نفسها، بعد أن دمرت البنى التحتية فيها بالكامل، وأحرقت المزارع (العمود الفقري للاقتصاد) والمدارس والمستشفيات وغيرها. ولكن قبل بدء عملية «البناء»، عالجت رواندا التصدع الذي أصاب أركان مجتمعها وعملت على إعادة ربط العلاقات المتفككة وتثبيت هوية وطنية جامعة قادرة على أن تحلّ محل العصبية العرقية. وعلى رغم مصرع 75 في المئة من التوتسيين داخل رواندا خلال الحرب، تبنّت الحكومة التوتسية، التي نجحت في إحكام سيطرتها على البلاد، سياسة «الاتحاد والمصالحة» مُستندةً إلى نظام قضائي تقليدي يعرف باسم «غاكاكا»، بموجبه يجتمع كلّ سكان القرية ليشهدوا على عملية الاعتراف بـ«الحقيقة» من قبل المتهم وتشجيع الضحية على الصفح والغفران، في حين تُقدم بعض التعويضات المالية الرمزية، مثل حراثة حقل الضحية لفترة محددة.
وضعت الحكومة دستوراً ينص على المصالحة الوطنية وإعادة تأهيل القاتلين


وفي حين تمت محاكمة الجناة الرئيسيين للإبادة الجماعية، وهم القادة الذين قاموا بعمليات «التحريض»، في محاكم عادية، سواء في رواندا نفسها أو أوروبا أو المحكمة الجنائية الدولية التي شكلتها الأمم المتحدة، إلا أن الالتجاء إلى «غاكاكا» كان أول خطوة فعلية على درب المصالحة. وبالتوازي، وضعت الحكومة دستوراً ينص على المصالحة الوطنية وإعادة تأهيل القاتلين من خلال البرامج التعليمية والتثقيفية، كما يُجرّم الخطابات التحريضية والتمييز العنصري. وفي هذا السياق، أعادت كيغالي توزيع السكان وتقسيم المحافظات التي أسقطت السيطرة القبلية عليها، وعملت على عودة النازحين واللاجئين، بحيث عاد نحو 3.5 مليون لاجئ إلى البلاد. كذلك أعطت الحكومة المرأة دوراً ريادياً في السياسة، ويشكّل النساء اليوم 56 في المئة من البرلمان.
إلى جانب ذلك، عرفت رواندا تحسناً كبيراً على مستوى الصحة والتعليم، حيث بلغ عدد الملتحقين بالمدارس الابتدائية 93% منذ 2013، بعدما كانت النسبة لا تتعدى 50% خلال التسعينيات، وتراجعت نسبة الأمية من 50 في المئة إلى 25 في المئة. كما ارتفع متوسط أمد الحياة من 48 سنة إلى 64 سنة، فيما انخفضت أرقام وفيات الأطفال من 2030 طفلاً في 1998 إلى 55 طفلاً فقط في 2012، وفق البنك الدولي.

الاعتماد على النفس
في أعقاب الحرب الأهلية، كان متوسط دخل الفرد السنوي في رواندا 30 دولاراً، ليصل في عام 2015 إلى 1800 دولار، أي ثلاثين مرة ضعف ما كان عليه قبل عشرين عاماً، وهو ما وصفه الخبراء بـ«المعجزة» نظراً إلى حجم الدمار الاجتماعي والاقتصادي في البلاد. ولكن الروانديون لا يجدون في تجربتهم «إعجازاً» وإنما سياسة حكيمة تتسم بالمرونة، فقد وضعت خطة محكمة تُرجمت بفعالية وانضباط على الأرض.
اتخذ الرئيس الرواندي بول كاغامي، سلسلة من التدابير أنعشت الاقتصاد بسرعة قياسية، وقام شخصياً بزيارة أبناء بلاده في الاغتراب وحثّهم على العودة للاستفادة من قدراتهم وخبراتهم. ووضع الرئيس على سُلّم أولوياته مبدأ «الاعتماد على النفس» للتحرر من سطوة المساعدات الدولية، التي قال إنّ بلاده «تقدرها، ولكن عليها أن تساعدنا في تحقيق ما نريد الوصول إليه. لا أحد يعرف مصلحتنا أكثر منا... ولا دولة يمكنها أن تنهض وتحقق تنمية اقتصادية من خلال الاعتماد على المساعدات. الارتهان لهذه المساعدات يسلخ عنا إنسانيتنا ويسرق منا كرامتنا».
كثّفت الحكومة جهودها للقضاء على الفساد المالي والإداري، واهتمت على وجه الخصوص بالقطاع الزراعي، الذي يعمل فيه 80 في المئة من الروانديين، فوضعت خطة لتطوير الزراعة واتخذت تدابير تشجيعية في هذا المجال. وتُعتبر المحاصيل الزراعية اليوم من أهمّ صادرات رواندا وأكثرها مساهمة في الناتج المحلي الإجمالي، إلى جانب الصناعة والتجارة والسياحة.
نجحت رواندا في تخفيض نسبة المنح والقروض الأجنبية في ميزانيتها العامة، التي باتت تشكل 20 في المئة من الميزانية العامة، مقارنة بعام 1994 عندما كانت الميزانية كلها تعتمد على المساعدات الخارجية. وإضافة إلى التركيز على القدرات المحلية، عملت الحكومة على جذب المستثمرين الأجانب من جهة، وتنشيط السياحة من جهة أخرى. ففي عام 1998، أقرت الحكومة قانون استثمار جديداً وأنشأت نظام «الشباك الواحد» الذي يسمح للمستثمر أن يقوم بجميع الإجراءات القانونية في مكان واحد وفي يوم واحد. هذه السياسة، التي لم تأتِ على حساب المواطن الرواندي، أثبتت نجاحها. ففي عام 2016 تصدرت رواندا قائمة الدول الأفريقية «الأكثر جذباً لرجال الأعمال»، مُحققةً نمواً اقتصادياً بنسبة 5.9 في المئة، في حين بلغ الناتج المحلي الإجمالي 9 مليارات دولار، وفق إحصاءات المعهد الوطني للإحصاء. كما وصل حجم التجارة إلى 603.44 مليون دولار، وبلغت قيمة واردات البلاد في ذلك العام 439.30 مليون دولار، وقيمة الصادرات 164.14 مليون دولار.
أما القطاع السياحي، فبلغت إيراداته أكثر من 400 مليون دولار، وأصبح يشكّل وحده نحو 43 في المئة من الدخل الإجمالي للبلاد. في السنوات الماضية، نجحت الحكومة في تسويق العاصمة كيغالي كوجهة آمنة أولاً، وجميلة ثانياً وذلك عن طريق تطبيق القوانين الصارمة، لا سيما في ما يخص النظافة التي تنفق عليها ملايين الدولارات. كما قامت بتخفيض سعر تأشيرة الدخول وسهّلت إجراءات الحصول عليها، في وقت ارتفع عدد الفنادق في البلاد، وخصوصاً في العاصمة. كذلك أنشأت مركز المؤتمرات الدولي، الذي استضاف قمتين أفريقيتين.



مصدر إلهام؟


لا يمر شهر نيسان من دون أن تستذكر رواندا الإبادة الجماعية التي بات الحديث عن مآسيها علانية طبيعياً، بل حاجة ضرورية للحفاظ على سلامة المجتمع وتماسكه. نجح الروانديون في مواجهة ذكرياتهم الأليمة واستثمارها من خلال المتاحف والنصب التذكارية والمراكز المخصصة لتخليد الإبادة وتعريف العالم بها.
فخلافاً للتجربة اللبنانية (والجزائرية)، التي استندت إلى «النسيان» والتواطؤ على الصمت من دون اعتبارات لمعرفة الحقيقة أو تحقيق العدالة في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، وضعت رواندا إصبعها على الجرح وتبنّت سياسة أتاحت ترميم الذاكرة المجتمعية وتجاوز الماضي من خلال استخلاص العِبر منه. ونظراً لخصوصية كل دولة، في طبيعة نزاعها وشعبها وتقاليدها، فإنّ رواندا تقدّم نموذجاً باستطاعة دول المنطقة أن تبني عليه وتطوره بما يتناسب مع مجتمعها، فتقوم هي الأخرى بخلق نموذج خاص بها.
والجدير بالذكر أن رواندا نفسها، ومعها الكثير من الدول الأفريقية، تعلمت من تجربة جنوب أفريقيا، التي مع نهاية نظام التمييز العنصري تبنت مبدأ «الحقيقة والعفو» وأوجدت لجاناً شعبية غير رسمية لرعاية المصالحة حملت شعار «كشف الحقائق يضمد الجراح».