عادت قضية الهجرة وفتح باب اللجوء، لترتدّ على المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، بعدما شكّلت على مدى ثلاثِ سنوات، أكبر التحديات السياسية في ألمانيا وأوروبا، مع تهديدها بانشقاق حكومي كبير في الائتلاف الحاكم الهشّ أصلاً. «الهجرة أمّ جميع المشاكل السياسية»، بهذه العبارة دافع وزير الداخلية الألماني، هورست سيهوفر، عن الاحتجاجات الأخيرة في البلاد، المناهضة للمهاجرين، والتي تخللتها أعمال عنف ارتكبها نازيون جدد، في تصريحٍ أدى إلى انهيار الهدنة الهشة داخل الائتلاف الحاكم في ألمانيا بقيادة المستشارة أنجيلا ميركل.
تفهم استياء وغضب الناس!
سبق لسيهوفر، وهو زعيم «الاتحاد المسيحي الاجتماعي في بافاريا»، الحزب الشقيق للحزب الحاكم «الاتحاد المسيحي الديموقراطي»، أن هدد بنسف الائتلاف الحاكم بسبب قضية الحدود التي باتت حساسة جداً في ألمانيا. تفاقم الوضع في أواخر آب/أغسطس بعد مقتل شاب ألماني (35 عاماً) طعناً في مدينة كيمنتس الشرقية، والاشتباه بأن عراقيين وسورياً من طالبي اللجوء ارتكبوا الجريمة. في الأيام التي تلت حادثة الطعن، خرجت مجموعات من اليمين المتطرف والسكان المحليين إلى الشوارع، ورفع المحتجون أيديهم بالتحية النازية المحظورة، وهاجموا العديد من الأشخاص الذين تدلّ ملامحهم على أنهم أجانب.
على إثر الاحتجاجات، واجه سيهوفر، بوصفه المسؤول الأعلى عن تطبيق القانون في البلاد، دعوات لإدانة المشاهد البشعة للغوغاء الذين هاجموا كذلك صحافيين ورجال شرطة. لكن الوزير، على الرغم من إدانته أعمال العنف التي طاولت الشرطة، أبدى تعاطفاً مع الغضب الذي أشعل التظاهرات، بقوله لصحيفة «راينيشه بوست» اليومية، إن «هناك استياءً وغضباً بين الناس بسبب حادث القتل، وهو أمر أتفهمه». لم يكتفِ الوزير بالتعاطف، بل أبدى استعداده للخروج «إلى الشوارع بصفتي مواطناً، ولكن بالطبع ليس مع المتطرفين»، لو لم يكن وزيراً.
تصريحاتُ سيهوفر المناقضة لرأي ميركل تأتي قبيل مواجهة حزبه انتخابات حاسمة في مقاطعة بافاريا الشهر المقبل، حيث يواجه منافسة قوية من «حزب البديل الألماني» للاحتفاظ بأغلبيته.
يأتي موقفه لحشد مزيد من التأييد في هذه الانتخابات، فقد نقل عنه الإعلام الألماني قوله في وقت متأخر أمس إن حكومة ميركل سارعت إلى انتقاد الاحتجاجات وأنه انتظر حتى يحصل على «معلومات موثوقة» للتعليق.
في اليوم نفسه، نفى رئيس وزراء مقاطعة ساكسونيا مايكل كريتشيمر في كلمة أمام مجلس المقاطعة أن يكون المتطرفون قد أشاعوا الفوضى في مدينة كيمنتس. ونفى وقوع «غوغاء» أو «مطاردة للأجانب» و«أعمال وحشية بحق مجموعة معينة». أثارت تصريحاته انتقادات بأنه يقلّل من مشكلة اليمين المتطرف في منطقته.

ترامب يتصدر مخاوف الألمان
أمّا ميركل، فقد أعربت مراراً عن صدمتها بشأن المشاهد «المؤلمة» في مدينة كيمنتس التي صورت بالفيديو أو وصفها العديد من الضحايا لوسائل الاعلام. وأكدت أمس أن «الصور التي شاهدتها تظهر بوضوح مطاردات وملاحقات مليئة بالكراهية لأشخاص أبرياء».
منذ فتح باب اللجوء عام 2015، سببت القضية خلافاً عميقاً في ألمانيا، وأضعفت ميركل التي تقود البلاد منذ 13 عاماً، ليقول معظم المراقبين إن ولايتها الحالية الرابعة ستكون الأخيرة على الأرجح.
وأجبرت المستشارة على تقديم تنازلات كبيرة لسيهوفر في تموز/يوليو الماضي لاستيعاب رفضه التوصل إلى اتفاقات ثنائية مع شركائها في الاتحاد الاوروبي لاستقبال طالبي لجوء وصلوا إلى ألمانيا بعد ذلك التاريخ.
يأتي ذلك فيما حصلت تعبئة في صفوف منتقدي ميركل بسبب سلسلة من الجرائم يتهم بها مهاجرون، لكن المدافعين عن موقف ميركل بشأن اللاجئين حشدوا قواهم كذلك، فحضر نحو 65 ألف شخص حفلاً موسيقياً ضد العنصرية في مدينة كيمنتس، بداية الأسبوع، جرى دون أي حوادث.
وفي وقت متأخر، أمس، خرج نحو 10 آلاف شخص إلى شوارع هامبورغ ضد تجمع جرى تحت عنوان «ميركل يجب أن تذهب»، شارك فيه نحو 150 متظاهراً فقط.
في الأثناء، أظهر استطلاع للرأي لمركز «أنفوسنتر» حول المخاوف الكبرى التي تتملك الشعب الألماني أن سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أكبر مصدر قلق لدى الألمان، بنسبة 69 في المئة، بعدما كان الإرهاب يحتل الصدارة العام الماضي.
جاءت الهجرات الجماعية (63 في المئة) مصدراً ثانياً للقلق لدى الألمان، يليها في المركز الثالث التوترات الاجتماعية الناتجة من الهجرة، وفق الاستطلاع الذي شمل كل المناطق الألمانية.
حل في المركز الرابع من المخاوف بنسبة 61 في المئة شكوك الألمان بقدرة سياسييهم على مواجهة المشاكل المعقدة التي يواجهونها. وجاء الإرهاب في المركز الخامس (59 في المئة)، بعدما تصدر هذا العامل المخاوف في العامين الماضيين وسط سلسلة من الهجمات الإرهابية التي ضربت باريس وبروكسل ولندن وبرلين.
أعربت ميركل مراراً عن صدمتها بشأن المشاهد «المؤلمة» في مدينة كيمنتس(أ ف ب )

حركة يسارية «شعبوية»
يأتي ذلك بعيد إطلاق سياسيين يساريين ألمان، قبل يومين، حركة شعبوية للاهتمام بمشاكل الفقراء واستعادة أصوات الناخبين من الطبقة العاملة الذين تحولوا إلى اليمين المتشدد المعادي للأجانب، ومواجهة سياسات ميركل «الليبرالية».
الحركة التي جاءت تحت تحالف «انهضوا»، أطلقتها السياسية الاشتراكية المثيرة للجدل التي تُعَدّ بين أبرز وجوه حزب «دي لينكي» اليساري المتشدد، ساره فاغنخت، بعد أسبوع من الاحتجاجات المناهضة للمهاجرين.
وفيما نددت فاغنخت (49 عاماً) بتأدية النازيين الجدد تحية هتلر والعنصرية التي عبروا عنها، أشارت إلى أن العديد من المواطنين استجابوا لدعوات حركة «بيغيدا» اليمينية المتشددة وحزب «البديل لألمانيا» المناهض، للهجرة جراء الغضب الذي يشعرون به بسبب ظروفهم الاجتماعية، وذلك خلال مؤتمر صحافي في برلين لإطلاق الحركة الشعبوية التي تضم عدة أحزاب.
هدف الحركة المعلن هو مواجهة «السياسات الليبرالية الجديدة» التي تتبعها حكومة ميركل، بالإضافة إلى العمل على تأمين الوظائف والمعاشات التقاعدية وحماية البيئة والوصول إلى «ديموقراطية حقيقية لا تحكمها المصارف والشركات ومجموعات الضغط». جرت مقارنات بين الحركة اليسارية الجديدة وحملات السيناتور الأميركي بيرني ساندرز وزعيم «حزب العمال» البريطاني جيريمي كوربن الشعبوية وحتى الحركات اليسارية الاجتماعية في إسبانيا وإيطاليا.
في المقابل، وفي موقف غير مستغرب، يرفض قادة الأحزاب اليسارية الثلاثة الحركة، على اعتبار أنها تعمق الانقسامات في صفوف اليسار وتضعفه.
هاجم رئيس حزب «دي لينكي»، برند ريكسنغر، فاغنخت لإثارتها الشقاق وسط حزبها، قائلاً إنه في الوقت الذي «يطارد» فيه اليمينيون المتشددون «الناس في الشوارع، على اليسار التعبير عن وحدة الصف وتشكيل جبهة واضحة ضد اليمين».
أمّا موقع «شبيغل أونلاين»، فرأى أنه لو أن حزب «دي لينكي» المنقسم لا يزال يملك «القليل فقط من الاحترام لنفسه، لكان طرد فاغنخت» من صفوفه.