خلال مشاركتي في مؤتمر مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية الفرنسية (Fondation pour la rechecherce strategique)، الذي نظم في بداية كانون الأول عام 2006 لدراسة النتائج العسكرية والسياسية لحرب تموز-آب من العام نفسه بين الجيش الصهيوني والمقاومة اللبنانية، لفتتني مداخلة لجنرال فرنسي اعتبر أن الدرس العسكري الأول للحرب هو عودة التكنولوجيا الروسية إلى ساحة المعركة. المقصود طبعاً بالتكنولوجيا الروسية كان أساساً صاروخ الكورنت الذي استخدم بفعالية عالية من مقاتلي المقاومة ضد الدبابات الإسرائيلية خاصة خلال ما سمي بمجزرة الدبابات في وادي الحجير في الجنوب اللبناني. يظهر هذا الاستنتاج الحساسية المفرطة للعسكرية الغربية عامة حيال أي تطوّر ميداني كفيل بالسماح بإعادة الاعتبار للتكنولوجيا الروسية بعدما دأبت السرديات الغربية على التأكيد على تخلفها وانعدام فعاليتها مقارنة بتلك الغربية وتبنيها من قبل الكثير من الأطراف الرسمية العربية في زمن مضى. وغني عن القول إن عودة روسيا إلى سوق التكنولوجيا العسكرية الدولية عبر عقدها مجموعة من صفقات بيع أسلحة متطورة، وبينها منظومة صواريخ S400، وتعاونها العسكري الاستراتيجي مع الصين هما تحوّلان شديدا الخطورة بالنسبة للتحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة لما لهما من تداعيات استراتيجية وسياسية واقتصادية على العلاقات الدولية وموازين القوى التي حكمتها.
التكنولوجيا العسكرية كرافعة للدور الدولي
عادة ما تتهم روسيا بأنها بلد لا يصدر سوى الغاز والنفط والسلاح للتأكيد على ضعف القدرة التنافسية لمنتجاتها الصناعية والتكنولوجية المدنية وعلى الضعف البنيوي لاقتصادها. تحتل روسيا حالياً بالفعل موقع ثاني أكبر مصدر عالمي للسلاح بعد... الولايات المتحدة. بحسب التقرير الأخير لمعهد استوكهولم لأبحاث السلم الدولي، فإن حصة روسيا من تجارة السلاح العالمية في الفترة الممتدة بين عامي 2013 و2017 هي 22% بعد الولايات المتحدة التي تقدر حصتها بـ34%. هما تتفوقان نوعياً على دول أخرى كفرنسا (6،7%) أو ألمانيا (5،8%) أو الصين (5،7%) أو بريطانيا (4،8%). وليس سراً أن روسيا كانت قد شرعت في برنامج طموح لتطوير قدراتها العسكرية فخصصت للإنفاق العسكري حوالى 4،6% من ناتجها الداخلي الإجمالي عام 2016. وهي اليوم المصدر الأول للسلاح للهند التي تشتري منها 68% من وارداتها العسكرية والدفاعية وكذلك الصين (67%) والجزائر (60%) وفييتنام (88%) وفنزويلا (74%). الغاية الأولى لسياسة تصدير السلاح النشطة التي تعتمدها روسيا هي تعزيز موقعها ومكانتها على المستوى الجيوسياسي الدولي وحماية أمنها القومي من خلال تطوير شبكة تحالفاتها عبر العالم. وهي توفّر لبعض شركائها فرصة عدم الارتهان حصرياً لمنظومات السلاح الأميركي والغربي أو حتى ممارسة ضغوط سياسية ودبلوماسية على الولايات المتحدة عن طريق تظهير إمكانية إيجادهم لمصادر تسليح أخرى. يرى بيار أفريل في مقال نشر في «لوفيغارو» أن «صواريخ S400 التي برزت أخيراً في واجهة صادرات السلاح الروسي، تحولت بيد الراغبين بشرائها إلى ورقة لممارسة الضغط الدبلوماسي على جهة ثالثة (الولايات المتحدة)... تركيا تنظر لـS400 على أنها تمثل شوكة في حلق واشنطن والناتو، قبل أن تكون أنقرة بحاجة عملية لها عسكرياً. أما الدوحة والرياض اللتان تعتمدان على صواريخ باتريوت الأميركية، فإن ما يصدر عنهما من إشارات إلى نيتهما شراء المنظومات الروسية ليس إلا وسيلة للضغط على واشنطن في المفاوضات المتوازية التي تجريانها معها. وتراقب واشنطن عن كثب هذا التحرك وتهدد بالعقوبات لكل من يجرؤ على شراء الـS400، وذلك بهدف ثني الأطراف المعنية عن عقد الصفقات مع موسكو». إن مجرد صدور مثل هذه التصريحات أو التلميحات عن أطراف وافقت لعقود على أن تكون الولايات المتحدة والقوى الغربية مصدرها الوحيد للسلاح هو تغيّر هام في علاقاتها معها يعود إلى استشعارها لتراجع هيمنتها ولعودة روسيا إلى الساحة الدولية. وما التهديدات التي أطلقها خالد الدخيل، الكاتب والصحافي المقرب من صناع القرار في السعودية، على موقع «العربية» عن احتمال قيام هذا البلد، في حال فرض عقوبات أميركية عليه على خلفية قضية جمال خاشقجي، بالسماح لروسيا بإقامة قاعدة عسكرية على أراضيه وبشراء السلاح منها ومن الصين والمبادرة إلى المصالحة مع إيران وحزب الله وحماس وتخفيض إنتاج النفط وغيرها من التهديدات، إلا مؤشر لا يخطئ على هذا الأمر. ومن يتأمل غياب ردود الفعل الروسية والصينية حول «قضية خاشقجي» يدرك أن بين أسبابه إمكانية استثمار أية تناقضات بين السعودية والأطراف الغربية لمصلحة البلدين.
مبعث التوجس الآخر للتحالف الغربي هو التعاون العسكري الاستراتيجي المضطرد بين الصين وروسيا. بيتر بروكس، نائب مساعد أسبق لوزير الدفاع الأميركي، عبّر عن هذا التوجس بوضوح عندما اعتبر أن «مناورات فوستوك 2018 (المشتركة بين روسيا والصين) ستوفر للصين، التي لم تخض حرباً منذ نزاعها مع فييتنام عام 1979، كنزاً من الخبرات العسكرية حول الحرب الحديثة». ويؤكد أن روسيا، التي اكتسبت خبرات كثيرة في مجال الحرب الهجينة ومكافحة التمرد وعمليات التدخّل العسكري خارج حدودها وحملات القصف الجوي وفي استخدامات أنظمة السلاح الحديثة والحرب الإلكترونية، التي تشكل برأيه نقطة ضعف لدى الولايات المتحدة، ستقدم هذه الخبرات للصين. سيسمح ذلك للأخيرة بتعظيم قدرات مختلف أسلحة جيش التحرير الشعبي (الصيني) التي ستتعزز أيضاً بشراء منظومات السلاح الروسية المتطورة. ويجزم بروكس أن التعاون الاستراتيجي بين الطرفين يشكّل تهديداً جدياً للقوات الأميركية في المحيط الهادئ وبحر الصين الجنوبي.
يشكّل الاستثمار المكثف في الصناعات العسكرية المتطورة وسياسة تصدير السلاح النشطة وكذلك الخبرات العسكرية، رافعة لدور روسي على الصعيد العالمي يتيح لروسيا الخروج من استراتيجية الحصار والتطويق الغربية المعتمدة حيالها، ونسج التحالفات والشراكات التي تندرج ضمن مسعاها لفرض التعامل معها على قاعدة الندية.