في وقت كان فيه المراقبون يترقّبون موجة ديموقراطية في الانتخابات النصفية الأميركية، توجه الجمهوريون بحشود غفيرة إلى صناديق الاقتراع، ليشكّل الإقبال الكثيف لمعسكر الحزب الحاكم تطوراً مفاجئاً لم يتوقعه الكثيرون.لم يكن هؤلاء الجمهوريون من ضواحي المدن ولا من أصحاب التعليم الجامعي، الذين في الواقع، صوّتوا للديموقراطيين هذا العام. لم يكن هؤلاء من الجماعات الداعمة لإصلاح الضرائب وخفضها: نصف أعضاء «الحزب الجمهوري» في اللجان المعنية إما تركوا الكونغرس وترشحوا لمناصب أخرى أو هزموا في الانتخابات. كذلك لم يكن هؤلاء من داعمي الموقف الجمهوري التقليدي الذي يفضّل الحكومة الصغيرة المحافظة. في الواقع، في الولايات التي فاز فيها المعسكر المحافظ، صوّت الناخبون لمصلحة توسيع نطاق برنامج خدمات الرعاية الصحية الأميركي «ميديكيد» (في نبراسكا وأيداهو ويوتا وغيرها)، ورفع الحد الأدنى للأجور (في أركنسو وميسوري). فهؤلاء الناخبون الجمهوريون هم من حمَلَة شهادات التعليم الثانوي أو أقل... هم من الطبقة العاملة.
اعتقد عدد كبير من النقّاد أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب سيتبنى خطاباً إيجابياً خلال الحملات الانتخابية، يتفاخر فيه بإنجازاته على المستوى الاقتصادي وبالنمو الاقتصادي الذي شهدته البلاد منذ وصوله إلى البيت الأبيض. لكن ترامب تبنى خطاباً يعكس الواقع الأميركي كما هو: لا تزال الحياة المعيشية كارثية بالنسبة إلى عدد كبير من الأميركيين.
في هذا البلد، لا يملك حوالى 20% من البالغين وظائف بدوام كامل، في حين يتوقع 37% فقط أن يعيش أولادهم (الجيل الجديد) في أحوال معيشية أفضل منهم. في هذا البلد، يعمل الملايين في وظائف تتبنى «ترتيبات عمل بديلة» مثل التعاقد أو الاستشارات، ما يعني عدم وجود راتب ثابت ولا ساعات عمل ثابتة، وعدم الشعور بالأمان الوظيفي. في 2016، حاول الناخبون من الطبقة العاملة توجيه رسالة، وها هم اليوم يحاولون مجدداً، ليبقى السؤال ما إذا كانت الطبقة الحاكمة ستستمع وتجيب.
يقول الكاتب أورن كاس في الجزء الأول من كتابه الجديد «The Once and Future Worker»، إن الطبقة المتعلمة أفسدت سوق العمل، إذ تسببت بتراجع قيمة العمل في بلادنا وهمّشت الطبقة العاملة التي باتت تجد صعوبة في العثور على وظيفة لائقة. تكمن المشكلة الأساسية في سلّم الأولويات. في العقود الماضية، تركزت السياسة الاقتصادية الأميركية على هدف واحد: نمو الناتج المحلي الإجمالي. في بلادنا، الناتج المحلي الإجمالي هو العامل الأساسي في تحديد الأداء الاقتصادي. بين عامي 1975 و2015، ارتفع حجم الناتج المحلي بمقدار ثلاثة أضعاف، ولكن ما هي قيمة هذا النمو إذا كان على حساب شريحة كبيرة من الشعب يتم تجاهلها لأسباب تتعلق بالكفاءة؟
على نحو مماثل، تركزت سياسة الرفاه الاجتماعي والاقتصادي خلال العقود الماضية على الاستهلاك: نعطي الفقراء المزيد من المال حتى يتمكنوا من استهلاك المزيد. ومع ذلك، لم ننجح في مساعدة الفقراء على إنتاج المزيد حتى يتمكنوا من السيطرة على حياتهم الخاصة. في الواقع، إن متوسط معدل الفقر في الفترة الممتدة من عام 2000 إلى 2015 أعلى مما كان عليه بين عامي 1970 و1985. «ماذا لو كانت قدرة الناس على الإنتاج أكثر أهمية من قدرتهم على الاستهلاك؟» يسأل كاس في كتابه، قبل أن يقدّم سلسلة من الإصلاحات التي من شأنها تحسين الظروف المعيشية في الولايات المتحدة.
على سبيل المثال، يدعم كاس «تتبع المسار الأكاديمي»، مشيراً إلى أنه في الوقت الحالي، هناك مسار واحد ثابت للجميع: بعد التعليم الثانوي تأتي الدراسة الجامعية. المشكلة هي أن، في الواقع، 20% من الطلاب لا يتخرجون في المدرسة الثانوية في أربع سنوات؛ 20% لا ينخرطون في أي مسار تعليمي بعد المدرسة الثانوية؛ 20% يتركون الجامعة قبل الحصول على الشهادة؛ 20% يعملون في غير اختصاصهم؛ 20% يخرجون عن المسار التعليمي المحدد لهم، فينتقلون من التعليم الثانوي إلى العمل مباشرةً. إننا نبني نظاماً معطلاً ونطلب من الجميع أن يتأقلم معه بدلاً من إيجاد نظام يتناسب مع احتياجات الناس الفعلية.
يقترح كاس أن تتبنى الولايات المتحدة النظام الموجود في معظم الدول المتحضرة في العالم: ندع الطالب يختار ما إذا كان يريد أن يأخذ مساراً عملياً بعد الثانوية أو مساراً أكاديمياً. في حين أن المدارس المهنية والتقنية منتشرة في العالم المتقدم، فإن هذا النموذج مرفوض تماماً في مجتمعنا. كذلك يقترح تأسيس التعاونيات العمالية. والتعاونية هي مجموعة أشخاص يتحدون طوعياً من أجل العمل الاقتصادي المشترك. من شأن هذه التعاونيات أن تحل مكان نموذج النقابات العمالية القديم وغير المناسب الموجود في الولايات المتحدة اليوم.
(...)
يقدّم كاس مجموعة من الاقتراحات الأخرى، من ضمنها الدعم الإضافي للأجور وإصلاحات الهجرة، ولكن هدفه الأساسي هو وضع العمل بحد ذاته وكرامة العمال في مركز ثقافتنا وقلقنا. (...) نحن، أصحاب التعليم الجامعي، أوجدنا نظاماً اقتصادياً وسياسياً يدور حول أنفسنا. لقد حان الوقت لإمرار إصلاحات اقتصادية توفر حياة كريمة للجميع.
(عن «نيويورك تايمز» الأميركية)