على ما يبدو فإن البريطانيين لا يريدون القتال. هذه الحقيقة تجلّت في أزمة التجنيد التي يواجهها الجيش البريطاني، وقد تدفع البلاد إلى تغيير القوانين والسماح لمواطني دول الكومنولث (رابطة الشعوب البريطانيّة المؤلفة من 52 دولة)، ممن يعيشون خارج بريطانيا، الانضمام إلى القوات المسلحة البريطانية. من خلال إلغاء شرط الإقامة لمدة خمس سنوات في بريطانيا قبل الانضمام إلى الخدمة العسكرية، تحاول السلطات سد النقص الحالي في صفوف الجيش، الذي يحتاج إلى 8200 عنصر إضافي على الأقل. كما سبق أن أعلنت البلاد السماح للنساء بالخدمة في كل الأدوار القتالية في إجراء تاريخي يهدف أيضاً إلى إيجاد حل لهذه الأزمة.دفعت حالة الجيش البائسة كبار المسؤولين العسكريين إلى التعبير عن قلقهم من عدم جاهزية القوات المسلحة في شكل كاف للتعامل مع المتطلبات العملية، ومن ضمنها المشاركة في 25 عملية داخل 30 دولة في جميع أنحاء العالم. عدم قدرة بريطانيا أن تملأ الفراغ في صفوف قواتها من داخل مجتمعاتها المعتادة يطرح تساؤلات عدّة حول قدرة البلاد على تحقيق اكتفاء ذاتي والوقوف وحدها. فبريطانيا بلد متوسط الحجم لا يواجه أي تهديد مباشر بنشوب حرب شاملة، وغالبية سكّانه يشككون بالتدخلات الخارجية في شكل عام. نعم، هناك أخطار وتهديدات، ولكن هل نحتاج حقّاً إلى جيش مؤلف من 150000 عنصر، إضافة إلى 80000 عنصر آخر في قوات الاحتياط؟ ولكن ليست هذه طريقة تفكير المسؤولين العسكريين، لا سيما في ظل الأموال الإضافية التي وعدهم وزير الخزانة بها. تغيير صغير في قوانين التجنيد كفيل في سد النقص وتأمين الزيادة في الميزانية، ولعل الطريقة الأسرع والأمثل هي فتح الباب أمام ملايين الرجال والنساء من الكومنولث. ومع ذلك، تأتي هذه الخطوة في لحظة مثيرة للاهتمام، مع استعداد بريطانيا لبدء عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي من جهة، وتصدّر ملف الهجرة للأجندة السياسية من جهة أخرى. بالنسبة للمعسكر المعادي للهجرة، الذي يهاجم الحكومة بسبب فشلها في الحد من زحف المهاجرين نحو البلاد، ستكون فكرة إدخال بريطانيا الأجانب في الجيش والقوات البحرية والجوية غير مرغوب فيها. وفي حال تمّ الاتفاق على ذلك، فإن الأمر مثير للسخرية، خصوصاً مع دخولنا حقبة «بريكست» وتمسّك المؤيدين للخروج من الاتحاد والمعارضين لتدفق المهاجرين، بقوميتهم ووطنيتهم وحنينهم لإنجازات الجيش البريطاني الماضية.
بالطبع، لن تكون هذه المرة الأولى التي يعتمد فيها الجيش البريطاني، والقوات البحرية الملكية والقوات الجوية الملكية، على عناصر غير بريطانية في العمليات العسكرية. حارب جنود هنود (Sepoy) مع شركة الهند الشرقية؛ تمّ تجنيد 30000 من جنود هسن (الألمان) Hessians للقتال من أجل بريطانيا خلال حرب الاستقلال الأميركية؛ حارب البولنديون والنيوزيلنديون وغيرهم إلى جانب البريطانيين في معركة بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية؛ يشكّل جنود الغورخا Gurkha منذ فترة طويلة الدعامة الأساسية للقوات البريطانية المسلحة. بل أكثر من ذلك، استخدم الجيش البريطاني في شكل منتظم في السنوات الماضية، مقاولين خاصين من جميع أنحاء العالم للقيام بأعمال مع القوات العسكرية، مثل صيانة الآليات العسكرية، بناء البنية التحتية وتوفير الأمن بعيداً من ساحات القتال المباشرة. بالتالي، فإن استخدام بريطانيا للمقاتلين الأجانب أو المرتزقة (كما يفضّل البعض تسميتهم)، ليست ظاهرة جديدة.
ومع ذلك، فإن فشل بريطانيا في سد نقصها والوفاء بحاجات جيشها النظامي البشرية، هو انعكاس لحالة البلد في شكل عام. فمع ارتفاع نسبة كبار السن وتدنّي نسبة البطالة نسبياً، أصبح العمل في السلك العسكري غير محبذ بالنسبة لعدد كبير من البريطانيين. كما أن الجدل الذي أحاط بدور بريطانيا في عدد من النزاعات في الشرق الأوسط مؤخراً، قد دفع بعض المجندين المحتملين إلى التفكير مرتين قبل الانخراط في الجيش والقوات المسلحة.
اعتماد بريطانيا في شكل عام على المهاجرين تجلى في إعلان هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية صراحةً أن البلاد لا يمكنها الاستغناء عن الأجانب: ﻻ ننتج أعداداً كافية من العاملين المحترفين في القطاع الصحي، كما أننا لا نقدّم للشباب حوافز كافية لدراسة وممارسة الطب. وعلى ما يبدو فإن السلك العسكري يواجه الوضع نفسه وتوجهه لقبول الأجانب هو دليل على ذلك. في الواقع، لا مشكلة حقيقية في حاجتنا لأشخاص من خارج بريطانيا، إذا اعتبرنا البلد جزءاً من منظومة اجتماعية واقتصادية عالمية. المشكلة تكمن في الأشخاص الذين على رغم كل هذه الأدلة، لا يزالون يتمسكون بالماضي ويتجاهلون حاجات الحاضر.
(عن «ذي إندبندنت» البريطانية)