في وقت تتراجع الولايات المتحدة إلى خلف أسوارها «الحمائية» منذ الانسحاب من محادثات اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ واتفاق الشراكة عبر الأطلسي وحروبها التجارية والجمركية مع الدول، تقود الصين ما يقدر بنصف سكان العالم إلى منظومة تعاون تجاري جديدة، سيقدر لها أن تساهم في طبع قواد التجارة العالمية في القرن الواحد والعشرين، ووراثة «الشراكة عبر الهادئ» كأضخم رابطة تجارية في العالم. زعماء العالم الذين اجتمعوا في قمة «آسيان» بسنغافورة هذا الأسبوع، بغياب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أحرزوا تقدماً في شأن التوصل إلى اتفاق «الشراكة الإقليمية الاقتصادية الشاملة» الذي تسوق له بكين، وفق ما قال أمس رئيس وزراء سنغافورة لي هسين لونغ، الذي أشار إلى أن المحادثات باتت «في مراحلها الأخيرة». وأضاف لونغ: «مع الزخم القوي الذي تولد هذا العام، يسرني أن أقول إنه من المقرر أن تنتهي مفاوضات الاتفاق في 2019»، محذراً في الوقت نفسه من أن التأخير يهدد بـ«خسارة مصداقية» الاتفاق، الذي تتواصل المفاوضات في شأنه على مدار ست سنوات. وعلى رغم أن التقدم أقل من المأمول صينياً، حيث حاولت بكين إعداد تفاصيل الاتفاق نهاية الجاري بينما سيتأجل العمل إلى 2019، فإن المسؤولين الصينيين بدوا سعداء لما أحرزوه. وقال رئيس الوزراء الصيني لي كيه تشيانغ، خلال اجتماع قادة دول منظمة جنوب شرقي آسيا (آسيان) في سنغافورة، إنه يأمل في أن «تخترق المحادثات السقف» وتأخذ التجارة الإقليمية إلى «آفاق جديدة».وتفاوض الصين واليابان والهند من بين 16دولة من بلدان آسيا والمحيط الهادئ، على اتفاقية الشراكة، ولا تزال ثمة قضايا شائكة بين هذه الدول ومخاوف تعوق السير بالاتفاق. فتخشى نيودلهي، مثلاً، من اجتياح الشركات الصينية لأسواقها، فيما لا تزال بعض القضايا بحاجة إلى تسوية، بينها الخلافات في شأن حقوق الملكية الفردية والرسوم على السلع والخدمات المالية. كذلك يضع مراقبون سياسات القادة والحكومات من بين الأخطار أمام الاتفاق، إذ ستشهد بعض البلدان تغييرات عن طريق الانتخابات كما في الهند وإندونيسيا وتايلاند، ما يجعل البرامج المقبلة في هذه الحكومات ضبابية. إلا أن قمة سنغافورة التي هيمنت عليها المحادثات في شأن الاتفاق أظهرت تفاؤلاً أكبر هذه المرة، بقرب تذليل العقبات وتحقيق إنجاز. كما بدا وزير التجارة الهندي سوريش برابهو، متمسكاً بالاتفاق عبر القول إن «المستقبل يكمن في اتفاق الشراكة الإقليمية الاقتصادية الشاملة».
ولم يشارك ترامب في قمة سنغافورة، التي حضرها 20 زعيم دولة، حيث حضر مستشار الأمن القومي جون بولتون، مطالباً بأن لا يعتبر غياب رئيسه «نقصاً في التزامه» تجاه المنطقة، موضحاً أن سبب الغياب هو ازدحام جدول أعمال ترامب بعد الانتخابات ومشاركته في احتفال نهاية الحرب العالمية الأولى بباريس، واستعداده للمشاركة في قمة «مجموعة العشرين» في الأرجنتين بعد أيام. لكن سنغافورة لن تكون الحدث الوحيد الذي يتغيب عنه الرئيس الأميركي، إذ لن يحضر أيضاً منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ «أبيك» في بابوا غينيا الجديدة يومي السبت والأحد من هذا الأسبوع. غياب استفاد منه نظيره الصيني شي جينبينغ، ليكون كما وصف مراقبون «نجم القمة»، إذ تزين البلد المضيف بالأعلام الحمراء ولافتات شكر للمعونات الصينية، ويستعد لاستقبال الضيف الصيني في حفل تقليدي تقديري، بعد أن يقوم بافتتاح طريق جديد في العاصمة. لن تغيب الولايات المتحدة عن المشهد، إذ سيحضر نائب الرئيس مايك بنس، مكان ترامب، لإلقاء كلمة، لكنه لن يغير من حالة تصاعد التنافس بين واشنطن وبكين في دول المحيط الهادئ والبلدان الآسيوية، بل وتراجع قدرة واشنطن على إقناع دول تلك المنطقة بعد الطلاق مع اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ.