بعد هزيمة ثورة 1848 في باريس، التي انتهت بمذابح دموية بحق المنتفضين والعمال، اعتبر الطبيب والصحافي والمناضل الثوري أرنست كوردوروا أن احتمالات التغيير الثوري من داخل فرنسا باتت معدومة، فرحل عنها، وألّف من المنفى رواية «هورا!!! أو الثورة من خلال القوزاق» (Hurrah!!! ou la revolution par les cosaques) قبل انتحاره في سويسرا. يتخيل كوردوروا في روايته اقتحام القوزاق، وهو يضم إليهم جميع الشعوب المصنفة «بربرية» آنذاك كالأفارقة والعرب والصينيين، لفرنسا وأوروبا، وقيامهم بتدمير جميع أسس ومظاهر الحضارة الرأسمالية. لم تتحقق نبوءات كوردوروا لكنه كان ليبتهج كثيراً لو قدّر له مشاهدة معارك الشوارع والحرائق المشتعلة في أحياء باريس الراقية. لم يعد العنف محصوراً في أحياء الضواحي الفقيرة، حيث تقطن غالبية تتحدر أصولها من المستعمرات الفرنسية السابقة، أو في المقلب الآخر من العالم، في جنوبه العربي والأفريقي بشكل خاص، حيث أدت السياسات الاستعمارية الغربية إلى نكبة شعوب بأكملها نتيجة تدمير دولها وجلّ مقومات بقائها. لقد انفجر العنف في قلب مدينة «الأنوار» معلناً، ربما، نهاية حقبة طويلة من «السلم الاجتماعي»، دفع أثمانها الباهظة عشرات الملايين ممن لم يحالفهم الحظ بالولادة في النصف الشمالي من الكوكب.
موازين القوى الدولية والسلم الاجتماعي
عندما يتحدث البعض عن «النموذج الاجتماعي» الفرنسي الذي دخل في طور الاضمحلال، يتعامون عمداً عن الشروط الجيوسياسية والجيواقتصادية التي جعلت عملية إعادة التوزيع الجزئية للثروة التي يفترضها، ممكنة. لم يرتبط الأمر بالحس الاجتماعي المرهف للنخب السياسية الفرنسية أو لأرباب العمل بقدر ما ارتبط بضرورات شراء السلم الاجتماعي في الداخل للاستمرار بسياسات التوسع والنهب في الخارج. لقد أوصى ألكسي دو توكفيل، أحد أبرز المراجع الفكرية لأنصار الديموقراطية الليبرالية وأحد أشد المدافعين عن التوسع الاستعماري (هل هي صدفة؟)، في أواسط القرن التاسع عشر، فرنسا بضرورة السير على خطى بريطانيا العظمى إن أرادت الوصول إلى مستويات شبيهة من الازدهار والرخاء والاستقرار. رأى توكفيل أن التوسع الاستعماري وحده الكفيل بتأمين شروط النهضة الاقتصادية والسلم الاجتماعي الداخلي عبر السيطرة على موارد وثروات وأسواق البلدان المحتلة وفتح الباب أمام إمكانية انتقال قطاعات من السكان إليها للعيش فيها كمستوطنين.
لقد بدأ النموذج الاجتماعي بالتآكل مع انطلاق مسار العولمة الاقتصادية التي ظنت النخب الغربية أنه سيفضي إلى تعزيز هيمنتها السياسية والاقتصادية على العالم ويسمح لها بالتحرر من العقود والضوابط الاجتماعية الداخلية. اختفاء التهديد الخارجي الذي مثله، على رغم جميع مثالبه، النموذج السوفياتي وانهيار الأحزاب الشيوعية والنقابات المرتبطة بها بدرجة أو أخرى، منحا لرأس المال شعوراً بالقوة المطلقة دفعته أيضاً للتحلل من التزاماته حيال قطاعات وازنة من سكان بلدان المركز وإعادة النظر بمنظومات الخدمات الأساسية التي كان يؤمنها لهم في فترات سابقة.
لم تكن نتائج العولمة كما توقعتها النخب الفرنسية والغربية. هي سرّعت من صعود منافسين اقتصاديين وسياسيين غير غربيين وإلى بداية تراجع نفوذ القوى الغربية وحصتها من الأسواق العالمية. ومع تزايد حدة المنافسة مع الصاعدين الجدد، باتت النخب الحاكمة في الغرب معنية بإقناع شعوبها، وليس أصحاب الرساميل الكبرى، بضرورة شد الأحزمة وتقديم التضحيات لتستطيع الشركات الفرنسية منافسة تلك الصينية أو الهندية وإلا فإن أوضاع الشعوب ستزداد بؤساً!
الاحتجاج الاجتماعي الذي تعبّر عنه حركة السترات الصفراء، حتى ولو انطلق اعتراضاً على رفع أسعار الوقود، آت من بعيد. هو نتاج لجميع السياسات النيوليبرالية التي جرى تطبيقها منذ عقود من قبل جميع الحكومات المتعاقبة، اليمينية منها واليسارية. لقد شهدت فرنسا بفعل هذه السياسات مجموعة من التطورات اللافتة منها هجرة الفقراء ومحدودي الدخل من المدن إلى الضواحي البعيدة والأرياف أي باتجاه معاكس للهجرة من الريف إلى المدينة التي بدأت مع نشأة الرأسمالية الصناعية واستمرت كاتجاه ثقيل لعقود طويلة. تطور لافت آخر هو عجز الفريق الحاكم عن التعامل مع الاحتجاجات بلغة أخرى غير لغة التخوين والعنف. تجميد قرار رفع أسعار الوقود بعد عدة أسابيع على انطلاق الاحتجاجات وتحولها إلى حركة على النطاق الوطني تدين الفريق الحاكم وتتهمه بالانحياز ضد المصالح الأساسية لغالبية الشعب دليل على العمى السياسي لهذا الفريق ومؤشر على أن مستقبله السياسي لن يكون زهرياً. تطور ثالث هو استسهال لجوء مجموعات كبيرة من المحتجين إلى العنف في مواجهة العنف القمعي للأجهزة الأمنية ورداً على سياسة الازدراء التي اتبعها الحكم الفرنسي حيالهم خلال الأسابيع الأولى من التحرك. لكن هذا العنف ناجم أيضاً عن الغضب المتراكم بسبب ظروف العيش الصعبة وسياسات الإفقار التي فرضت عليهم. منذ بداية الاحتجاجات عادوا يمثلون ما كانت النخب الفرنسية الحاكمة تسميه «الطبقات الخطرة». لقد اجتاح البرابرة مدينة الأنوار لكنهم لم يأتوا من وراء الحدود!