بالنسبة إلى كتّاب الافتتاحيات والمسؤولين السياسيين، فإن فرنسا منقسمة إلى قسمين. هناك من جهة، المدن الكبرى التي تخلق الوظائف، ومن جهة أخرى المناطق المحيطة التي تعاني من الصعوبات. إنها أيضاً المدن الكبرى في وجه الضواحي الفقيرة، وقد تكون بالنسبة إلى آخرين المدن المتوسطة والمناطق الريفية. الثنائيات التي يمكن الحديث عنها كثيرة، وهي موجودة في ذهن كثيرين حاولوا فهم التحرّك الأخير، أو معرفة ماهية «السترات الصفراء» بحدّ ذاتها.الواضح حتى الآن، أنّ هذا التحرّك حافظ على طابعه الملوّن. لا قائد له، بل وجوه عدّة تظهر أحياناً في الإعلام، وعبر موقع «فايسبوك». مطالبات متغيّرة، لا تتعلق بأسعار الوقود فقط، ولكن أيضاً بالرسوم وغيرها من التدابير، إضافة إلى الضمان الاجتماعي وحقوق المتقاعدين والتربية والتعليم.
وبما أنّ محاولة فهم هذا التحرّك تؤدي إلى المزيد من الضياع، في أحيان كثيرة، فقد هرب العديد من وسائل الإعلام من وجوب تحديده، إلى استخدام عبارات تدل على حالة من الحيرة أمامه. «تحرّك بألوان كثيرة»، «حراك غير منسجم»، «مطالب غير مترابطة»... التوصيفات التي استخدمت عديدة، ولكن قد تكون العبارة الأدق والمعبّرة عن هذه «الظاهرة» أو «الحالة»، هي «سرّ السترات الصفراء»، التي استخدمتها مجلة «لي إيكو» les echos في معرض بحثها وتقصّيها عن جذور هذا التحرّك وكينونته.
«القصة المثيرة» التي تحدثت عنها المجلة، «لغز يؤرق السياسيين وعلماء الاجتماع منذ ظهور التحرك ضد رفع أسعار المحروقات». وفق المجلة، فإن الاستطلاعات يمكن أن توفّر بعض المفاتيح لفهم الأمر. بدايةً، أشار أحد الاستطلاعات إلى أن 69 في المئة من الفرنسيين يُظهرون التعاطف مع هذا التحرك، ويدعمونه. النسبة تبقى أعلى بين من هم من الشباب. كذلك، يميل الموظفون وأصحاب المهن الحرة أكثر من غيرهم إلى هذه الحركة. إلا أن الانقسام يبدو جغرافياً بحسب المجلة، إذ إن «المناطق الريفية تبدو أكثر دعماً للتحرك (75%) من المناطق الحضرية الإقليمية (70%)، وخصوصاً في التكتل الباريسي (59%)».
أما في ما يتعلق بالتموضع السياسي، فهو غير واضح. ولكن ما هو واضح بالنسبة إلى مختلف المراقبين، وأيضاً بالنسبة إلى «لي إيكو»، أنّ «الدعم ملاحظ أكثر بين يمين اليمين (87% من المتعاطفين ينتمون إلى حزب «انهضي فرنسا»، و84% ينتمون إلى حزب «التجمّع الوطني» الذي ترأسه مارين لوبن)». ولكن هناك أيضاً دعم قوي من اليسار (79% من المتعاطفين ينتمون إلى الحزب الاشتراكي، 75% ينتمون إلى حزب فرنسا الأبية و74% إلى حزب أوروبا الإيكولوجية/ الخضر).
باختصار، بالنسبة إلى المجلة، فإن «السترات الصفراء» خلقت «جسماً اجتماعياً غامضاً». «صحيح أن التحرّك هو نموذج للحركات الشعبية التي تخرج من المبادرات المحلية، ولكن ما يثير الدهشة هنا، القدرة التنظيمية العفوية» يقول المتخصص في علم الاجتماع ألبير أوجييه في حديث للمجلة. «نحن أمام شيء جديد» يضيف زميله فريدريك دابي.
إذاً، من الصعب جداً وضع ملفات تعريفية نموذجية واضحة عن «السترات الصفراء». ويدرك علماء الاجتماع هذا الأمر. يرى العديد منهم أنه يجري استقطاب هؤلاء بشكل رئيسي من الطبقة الوسطى الدنيا والطبقات المتوسطة، وربما من الأشخاص الذين يتمتعون بمستوى منخفض من التعليم، ويمتهنون المهن اليدوية. إلا أن المؤكد أن هناك حضوراً لمختلف الأجيال. كذلك، فإن التعبئة القوية للنساء تُعَدّ سمة أخرى للتحرّك. ووفق إحدى الدراسات التي أشارت إليها مجلة «لا كروا» فإن التحرّك يتألف من نسبة متساوية بين النساء والرجال.
المدير العام لمركز الاستطلاع «إبيسوس»، بريس تانتورييه، يشير إلى الأمر من منحىً آخر. يلفت في حديث إلى صحيفة «لو موند» إلى أن التحرك الحالي يجد جذوره في الشعور القوي بعدم العدالة الاجتماعية. وفي سياق حديثه عن سبب العنف، يشير إلى أنّ هذا التحرّك ليس لديه حتى الآن أعضاء للتفاوض مع الحكومة أو كادر تمثيلي، ما يجعل من العنف سمة حاضرة دائماً، بسبب عدم القدرة على ضبطه من قبل أشخاص معيّنين.
هرب العديد من وسائل الإعلام من تحديد الحراك باستخدام عبارات تدلّ على حالة الضياع أمامه


تانتورييه يقول إن «السترات الصفراء» لا تشعر فقط بالتجاهل في مجتمع ظالم، ولكن أيضاً تشعر بأنها محاصرة. وهو يشبهها بالنمر الذي يجب عدم محاصرته، وإلا غضِب. من جهة أخرى، يشعر ذوو «السترات الصفراء» بأنهم أشخاص «محتقَرون» ويعاملون على أنهم «أغبياء»، يشير عالم الاجتماع إيريك نوفو. إلا أن الحركة التي تستمد قوتها من العفوية، يمكن أن تخسر الكثير بسبب هذه الصفة أيضاً، الأمر الذي حذّر منه العديد من الخبراء.
يظهر هذا الأمر من خلال بعض الحساسيات التي بدأت تظهر بين «السترات الصفراء»، أي أن هناك انقساماً بين «المدافعين عن اعتماد نهج قاسٍ وحاد»، وغيرهم ممن «يدعون إلى اعتماد نهج معتدل»، وحتى بين هؤلاء هناك أيضاً انقسامات.
صحيفة «ليكسبرس» l›express ذكرت هذا الواقع، مشيرة إلى أنه بعد أسابيع على بداية التحرك، ظهرت بعض التشققات ضمن الحركة. وإذا كان ثمة من فضّل اللجوء إلى تحرك السبت الماضي، فقد كان «هناك من تمنى دائماً إقامة حوار مع الحكومة». وضمن ذلك الإطار، تحدثت الصحيفة عن «تجمّع السترات الصفراء الحرة» الذي أبدى رغبته في التحاور مع الحكومة، في مقال نُشر في صحيفة «جورنال دو ديمانش» في الثاني من كانون الأول. الهدف: «البدء بمفاوضات مع الذراع التنفيذية، كي لا يُعاد إحياء العنف الذي ارتُكب في أول من كانون الأول» في العاصمة.