مع وجوده تقليدياً في مراكز الأبحاث في العلاقات الدوليّة، يقع اليوم مفهوم القوّة وتحولاته في قلب النقاشات السياسيّة أكثر من أي وقت مضى. وُلدت في التسعينيّات فكرة ترى أننا بصدد ولادة عالم «ما بعد وستفاليّ»، تشكك في دور الدولة على الساحة العالمية حيث «ينازعها فاعلون ما دون وطنيين أو عبر-وطنيين» (وفق عبارة المنظّر الفرنسيّ برتران بديع)، وفي قوّة الدول كمحدد هيكليّ للعلاقات الدوليّة، لكنها صارت اليوم تتعرّض لنقد واسع. فعلى عكس أطروحة ناد ليباو وسيموش رايش في كتابهما «وداعاً للهيمنة» (منشورات جامعة برنستون، 2014)، التي تقول باضمحلال القوّة، وتعتبر أنّ الجهاز العسكريّ صار يُستخدم بنحو غير فعّال في إطار تنافس على «المكانة» (وليس حول القوة كما كان سابقاً)، يقدّر متابعون آخرون للعلاقات الدوليّة أن العالم يشهد عودة حامية لمنطق قوة الدول التي تؤطر لعبة الصراع الدوليّ.
في كتابه «تشظي العالم: القوة في العلاقات الدوليّة» (دار إيكونيميكا، باريس، 2018) يستنكر الباحث في جامعة باريس ــ ديكارت، تيري غراسان، هذه المقاربة التي صارت أيديولوجيّة حقيقيّة، تحظى بمكانة ثابتة، لا تأخذ بالاعتبار التقلبات السياسيّة والترسخ المتزايد للسيادات الدولتية والمصالح الوطنيّة.
وفقاً له، تشهد المطالبات القوميّة والصعود الساطع لمختلف أشكال الشعبويّة واليمين المتطرف على رغبة متزايدة لاستعادة سيادة الدولة، ويزداد سطوع نجم الفاعلين الدولتيّين وضوحاً مع وصول مسيّرين سلطويّين إلى الحكم وتبنّيهم سياسة الأمر الواقع: «خذ ثلاثة أمثلة على ذلك، أميركا ترامب، روسيا بوتين، وصين شي جين بينغ. من الواضح أنّ ما يجمع بين هذه القوى هو إرادة تغيير النظام العالميّ، وعندما تراقب ممارستها عن قرب ترى أنّها لا تكتفي بممارسة سياسة سلطويّة، بل كذلك سياسة قوّة نشطة».
«لقد التجأت إلى القوّة العسكريّة ولا تهتم بالمنظمات الدوليّة، نحن نعيش في وضع «قوّة القوّة» وليس «عجز القوّة»»، يشرح غراسان ذلك بالقول: «يمكن أن نناقش أشكال القوّة هذه، ننسبها، نعيد تقييمها، لكن لا يمكننا إنكار أنّها بصدد التطبيق». بالنسبة إلى المحلّل الفرنسيّ، يتميّز المحيط الاستراتيجيّ الجديد بتقلّب التحالفات، ومحدوديّة التقاربات، وتطوّر المساومات والتنافس القائم على المصالح بين الفاعلين. حيث يلاحظ أنّ «إشكاليّة طرق الحرير تُظهر كيف يمكن أن تصير موسكو ساخطة سريعاً على الرغبة في استخدام دول الاتحاد السوفياتيّ السابقة في إطار هذا المشروع الصينيّ. يوجد تقارب بين العاصمتين بقدر ما يوجد تباعد بينهما». ووفقاً له، تتجه الولايات المتحدة نفسها أكثر فأكثر نحو بناء تحالفات قائمة على غرض محدّد، تحالفات على القياس، «ليس ترامب انعزاليّاً يؤمن بتعدّد القطبيّة، بل على النقيض من ذلك، هو مؤمن بقطبيّة ثنائيّة ويمارس في الوقت نفسه سياسة انسحاب (اتفاقيّة الشراكة عبر المحيط الأطلسيّ، اتفاق المناخ، يونسكو، الاتفاق النوويّ الإيرانيّ) وسياسة تدخّل واحتواء تظهر في الضربات على سوريا وسياسة العقوبات على إيران».
بالنسبة إلى تيري غراسان، يبدو التحالف المستقرّ الوحيد، وهو «حلف شماليّ الأطلسيّ - الناتو»، مقيّداً بدور «النادي السياسيّ» في غياب منافس معلن. «أساساً، تستخدم الولايات المتحدة الناتو لتجديد زبونيتها السياسيّة، الاقتصاديّة، والماليّة، لكنّها بلا شكّ تفكّر عشر مرات قبل التعويل على الناتو في أغراض استراتيجيّة باستثناء الفرضيّة الدراميّة لقيام مواجهة بين موسكو وواشنطن. تعاني الولايات المتحدة من مشاكل مع عدد من حلفائها داخل الناتو، بداية من تركيا. تميل هذه التناقضات المستمرة إلى مصلحة تأكيد فكرة أنّنا نتجه أكثر فأكثر نحو عقد تحالفات فريدة من نوعها وأكثر فعاليّة لتحقيق بعض الأهداف بأسرع وقت ممكن. إنّها نهاية التحضيرات المشهديّة للناتو من أجل مغامرة على أراضٍ لم يعد له الكثير ليفعله فيها» يضيف.
يرى المحلّل أيضاً أنّ التباعدات بين الولايات المتحدة وأوروبا لا آثار فعليّة لها على الدور الدوليّ للاتحاد الأوروبيّ: «لم يعد لأوروبا مشروع سياسيّ، لقد فشلت الفيدراليّة وهي تواجه الآن تحديات داخليّة مهمّة، خاصّة صعود الشعبويّة، اليمين المتطرّف، إدارة توسّعاتها المتعدّدة، بنائها المعقّد، سياسة الهجرة التي تقسّم الأوروبيّين، الدول التي تنتهك القانون و(البركسيت) غير التام رغم استمراره».
ووفقاً لغارسان، إنّ أيّ محاولة للاستقلال عن التحالف عبر الأطلسيّ، وإن كان هذا الأخير «مريضاً»، تبدو غير واقعيّة. ويذكّر بأنّ أوروبا لم تتمكّن من بناء سياسة تقارب بين دولها الأربع الرئيسيّة، وهي ألمانيا، المملكة المتحدة، فرنسا وإيطاليا. «ألمانيا مقيّدة بدستورها، إذ لا تملك على المستوى الاستراتيجيّ غير هامش مناورة ضيّق، ويعود ذلك بالخصوص إلى الحدود الدستوريّة المعقولة التي يمكن تفسيرها. المملكة المتحدة بصدد مغادرة الاتحاد الأوروبيّ، فالمسألة محسومة بالنسبة إليها. لا تزال إيطاليا منحازة إلى التحالف عبر الأطلسيّ والأميركيّين، وهي لم تؤدّ قطّ دوراً على مستوى السياسة الخارجيّة المشتركة. أما بالنسبة إلى فرنسا، فهي تواجه مشاكل مرعبة لإعادة تأهيل نفسها اقتصاديّاً». ويخلص المحلّل إلى القول: «من دون سياسة خارجيّة لا يمكن أن تكون لك سياسة دفاع».