إسطنبول | حقّقت طائفة العلويين في تركيا «نصراً» قانونياً غير مسبوق في تاريخ البلاد، ضمن جهودها الطويلة لدفع السلطات نحو منح أماكن العبادة الخاصة بها، والمسماة «بيوت الجمع»، الامتيازات نفسها التي تتمتع بها مساجد باقي الطوائف المسلمة. فقد أصدرت محكمة الاستئناف في العاصمة التركية أنقرة، قبل أيام، حكماً مبرماً غير قابل للاستئناف، بأن على الدولة التركية الاعتراف بـ«بيوت الجمع» كدور عبادة رسمية للأقلية العلوية، وأن تتحمل نفقات الكهرباء والخدمات الخاصة بها، مثلما هي الحال بالنسبة إلى المساجد. كثيرون من أبناء الأقلية العلوية في تركيا يشعرون بالتهميش والتمييز من قبل حكومة بلادهم جراء عدم قيامها بتوفير الدعم والحماية والاعتراف بشكل عادل، على الرغم من تعهّد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال حملته الانتخابية في حزيران/يونيو الماضي، بالاعتراف ببيوت عبادتهم كدور رسمية للعبادة. لكنّ «حزب العدالة والتنمية» الحاكم، لم يتطرق إلى هذه القضية بعد انتهاء الدعاية الانتخابية وفوزه في الانتخابات، ولم يتم إدراجها في خطة عمل الحكومة للمئة يوم الأولى من عملها، والتي أعلنت في آب/أغسطس الماضي. يذكر أنه في عام 2013، عندما كان أردوغان رئيساً للوزراء، رفض المطالب العلوية بالاعتراف الرسمي بـ«بيت الجمع»، وقال وقتها: «هناك دار واحدة للعبادة في الإسلام وهو المسجد»، ثم في الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية في حزيران/يونيو من هذا العام، وعد أردوغان بجملة من الإصلاحات لتلبية مطالب الطائفة العلوية، حيث قال: «سنواصل تحسين نموذجنا الديمقراطي وسوف نرفعه إلى أعلى المستويات، وسنمنح جميع الأديان في مجتمعنا وضعاً قانونياً مكتملاً». غير أنه في الأشهر الستة التي تلت الانتخابات لم تتحقق أيّ من تلك الوعود. وتعدّ مسألة الاعتراف القانوني بـ«بيوت الجمع» من بين القضايا العالقة منذ أمد طويل، ودائماً ما يستشهد بها كثيرون في الطائفة العلوية كدليل على تجاهل الدولة لحقوقهم. وفي حين يعد قرار محكمة الاستئناف الأول من نوعه تطوراً تاريخياً (صدر في الـ11 من ديسمبر/كانون الأول الجاري ويحتاج إلى 40 يوماً ليصبح نافذاً من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية)، إلا أن المشكلة ليست جديدة. فقد رُفعت دعوى قضائية مماثلة إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR) في عام 2016، وتركيا من الدول الموقعة على ميثاقها، وقضت المحكمة بأن على الدولة التركية الوفاء بالتزاماتها تجاه الأقليات الدينية في البلاد، لكن أنقرة لم تلتزم بالحكم آنذاك.ويقول عز الدين دوغان، رئيس مؤسسة «الجمع» (Cem) (منظمة رائدة في النضال القانوني من أجل حقوق العلويين في تركيا)، لـ«الأخبار»: «أتباع الطائفة العلوية، والتابعون للمؤسسات العلوية على اختلاف مسمياتها في البلاد، توقفوا عن دفع فواتير الكهرباء في أعقاب قرار المحكمة الأوروبية... لقد أكدنا أنه ليس بإمكان الدولة التمييز بين مواطنيها، سواء بموجب قوانينها أو إجباراً بحكم المحكمة الأوروبية». وتابع: «تراكمت آنذاك ديون كبيرة على بيوت الجمع بسبب التوقف عن دفع مصاريف الخدمات، وعندما طلبت الشركات السداد، كنا نقول: حسناً، لتقطعوا الخدمات عن بيوت الجمع. لم يكن باستطاعتهم فعل ذلك، لأنهم يعرفون أنهم سيواجهون العلويين لو فعلوا، وما زلنا لا ندفع فواتير الكهرباء... نحن نضعهم تحت الأمر الواقع». اليوم، هذا هو الوضع الذي يمكن مشاهدته على الأرض، لكن الضمانة القانونية تظل مهمة للعلويين، لأن الأمر بالنسبة إليهم ليس مجرد مسألة نفقات وخدمات، بل نضال من أجل الحصول على «اعتراف» الدولة بشكل واضح لا مجرّد إلحاقهم بالطوائف المسلمة الأخرى. يحذّر دوغان من أنه «إذا فشلت الحكومة في القيام بما يجب عليها القيام به في الانتخابات المحلية في 31 آذار/مارس 2019، فقد تواجه تركيا وضعاً أكثر خطورة. ويمكن للمواطنين حينها اتخاذ إجراءات معينة للمطالبة بحقوقهم، وقد حذرنا الحكومة من حين إلى آخر بشأن هذه القضية. نحن لا نريد أن يتعطل السلام في البلاد... لكن عليهم أن ينظروا إلى مطالبنا». ويرى الناشط الحقوقي العلوي أن النضال من أجل حقوق طائفته يكافئ النضال من أجل الحفاظ على مبادئ العلمانية التي أرساها أتاتورك، مؤسس الجمهورية، وسط الجدل المتزايد حول الإسلام السياسي ونظام الحكم الرئاسي الجديد. ويقول في هذا الشأن: «يتم بناء المساجد في كل مكان هنا، ويتم استخدام هذه المساجد كأداة سياسية. هذا ليس أمراً مخفياً، يريدون تخصيص غرف للصلاة حتى في المدارس، هذا النهج يمكن أن يؤدي إلى عواقب غير سارة للغاية بالنسبة إلى المجتمع، 90 في المئة من الشعب يؤيدون العلمانية، بيد أن الحكومة الحالية تعمل بفهم واحد وحيد للإسلام... هذا يزعزع أمان الناس ويزرع الشك في نفوسهم».
يشيد دوغان بقرار المحكمة الذي يعترف بـ«بيوت الجمع»، وإن كان قد تأخّر كما يقول، ويعتبر أنه «في مثل هذا المناخ السياسي الذي حُرمنا فيه كل شيء، لا ضير في مدح بعض من الهواء النقي». كما يشيد بالحكم باعتباره قراراً نادراً ومثالياً من جانب القضاء الذي تعرّض سابقاً لانتقادات شديدة، لكنه يعبّر عن تشاؤمه من التزام الحكومة. والتشاؤم العلوي ملموس على الساحة السياسية أيضاً، حيث يعبّر النائب العلوي عن «حزب الشعوب الديمقراطي» المعارض، كمال بلبل، عن قلق مماثل إزاء الإسلام السياسي، ويقول لـ«الأخبار»: «هناك بيت عبادة واحد داخل المجمع الرئاسي (بني أخيراً)، وهو مسجد، لماذا لا يقومون ببناء كنيسة أو بيت جمع؟ هذه النظرة وحدها تتحدث عن نهج الدين الواحد للحكومة». وفقاً للبرلمانيّ التركي، فإن «مديرية الشؤون الدينية» (ديانت)، التي تتمتع بميزانية سريعة النمو، قد كُلفت بمهمة حماية هذا النموذج الديني التركي، وهي تعمل «كمؤسسة للوصاية على جميع العقائد في تركيا»، ومن غير المحتمل بالتالي أن تستجيب لقرار محكمة الاستئناف لصالح العلويين. ويرى بلبل أن الرئيس أردوغان أوعز إلى المحكمة بالاعتراف بـ«بيوت الجمع» كأماكن للعبادة في هذا الوقت بالتحديد، لضمان أصواتهم في الانتخابات المحلية المقبلة، والتي ستكون صعبة على «حزب العدالة والتنمية»، بحسب اعتقاده، بعد الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد أخيراً، والفشل الذريع، كما يقول، في مواجهتها، ويتساءل ساخراً: «هل علينا في كل مرة الانتظار لفترة انتخابات لإنجاز حق من حقوقنا؟ إذاً لنجهز قائمة الحقوق التي ينبغي تقديمها قبل الانتخابات ما بعد المقبلة».