كوبا | المرور في شارع، ومُصادفة «ميني - أوركسترا» تعزف الألحان للعامة، ليس أمراً شائعاً في العالم. هنا مدينة سيانفويغوس - ساحل كوبا الجنوبي - التي تُشرق الشمس فيها على وقع أصوات حوافر الأحصنة. «كلّ يوم أحد، يتجمّع الموسيقيون ليعزفوا في الساحة»، يُخبر فلاديمير. سائق سيارة أجرة من نوع «لادا» مصنوعة زمن الاتحاد السوفياتي، لا يتحدّث سوى الإسبانية، كغالبية الكوبيين. لم يوضح الرجل إن كانت الأوركسترا هي تقليد أيام الآحاد في جميع المُدن، أو في هذه المدينة وحدها. الثابت، أنّ الموسيقى تحتلّ حيّزاً كبيراً في حياة الكوبيين.
قدّمت كوبا نموذجاً فريداً في المقاومة والصمود منذ أن فرضت عليها واشنطن حصاراً اقتصادياً قاسياً

تمشي في «شارع أوبيسبو» التجاري في العاصمة هافانا، فتسمع عزفاً لإحدى أغاني فرانك سيناترا. تصل إلى أمام فندق «إنغلاتيرا»، فتجذبك الموسيقى التقليدية. وفي «هافانا القديمة»، تشدّ امرأة أنظار المارّة، وهي ترقص على أنغام موسيقى عازف الترومبيت. على كورنيش «مالوكون» البحري، مجموعة من الشباب يحملون مُكبّراً للصوت، يرقصون ويُغنّون، فيما يتحلّق آخرون حول عازف غيتار. يستوقفك أحدهم ليسألك، كثير من أهل البلاد، عن موطنك. يشكو سوء أحواله المادية. كان يعمل مرشداً سياحياً، لكن حادث سير كسر رجله، فاضطر إلى أن يعيش على إعانات الدولة، إلى أن يشفى. لا يجد حرجاً في التعبير عن رأيه بسياسة بلاده. ينتقد الحكومة، ويقول إنه يحب تشي غيفارا أكثر من فيديل كاسترو. قد تُصادف جميع تلك الفرق والعازفين المُنفردين في يوم واحد، في أحياء مُتفرقة من العاصمة. يُحكى أن الموسيقى الكوبية تأثّرت كثيراً بفريديريك شوبان، بسبب استقرار أحد أصدقائه المُقربين في هافانا عام 1844. ربّما لهذا السبب، تعاونت الحكومتان الكوبية والبولندية لتنفيذ تمثالٍ لشوبان، وُضع في ساحة سان فرانسيسكو دي أسيس - هافانا، احتفالاً بالذكرى المئوية الثانية لميلاده. على الناحية الأخرى من الساحة، وُضعت منحوتة برونزية تُجسّد شخصين، أحدهما يتكلّم والثاني يُصغي، وتُعرف بـ«La Conversación»، أو الحوار. قدّمتها السفارة الفرنسية في الـ2012، للدلالة على أهمية الحوار في المجتمع المعاصر. الحوار معها والتعرّف إليها، هو أكثر ما تحتاج إليه كوبا، لكسر الصورة النمطية المُكونة عنها.
قدّمت كوبا نموذجاً فريداً في المقاومة والصمود، منذ أن فرضت عليها الولايات المتحدّة الأميركية حصاراً اقتصادياً قاسياً بعد انتصار الثورة عام 1959، مُترافقاً مع الترويج لصورة ظالمة عن البلد. زُرعت لدى جزء كبير من الرأي العام العالمي، أفكار خاطئة عن النظام الكوبي والسياسة الداخلية. سمح ذلك لفئة من الناس بوضع نفسها في مرتبة أسمى من الكوبيين، مُغدقةً عليهم أحكاماً مُسبقة وفوقية. قرار السفر إلى كوبا، كان يعني سماع آراء بعض هؤلاء، الذين انقسموا إلى قسمين. البعض تعامل مع الفكرة بسخرية، مُراهناً على أنّ الواقع في كوبا «الديكتاتورية» التي «توقّف فيها الزمن عند الخمسينيات»، سيكون مُخيّباً للآمال. والبعض الآخر بدا مُرتاباً من الذهاب إلى «بلادٍ نائية»، تنقطع فيها التكنولوجيا والتواصل، و«تنتشر فيها العصابات والأوبئة». أقوالهم مبنية على بروباغندا معروفة الأهداف، من دون أن يعلموا أنّ كوبا تُصَنَّف كإحدى أكثر الوجهات السياحية أماناً. ولا يقتصر الأمر على تصنيف وكالات السفر، فالواقع مُطابق أيضاً. تخرج فتاةٌ لاكتشاف مدينة «سانتياغو دي كوبا» (جنوبي شرقي هافانا، وتبعد عنها 870 كلم) وحدها، وتدخل بدايةً متحف الكرنفال، ومن شرفته تُراقب صفّاً لتعليم رقصة السالسا.
الحصار هو المسؤول الرئيسي عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يُعاني منها الكوبيون

تمرّ بساحة سيسبيديس العامة، ومن أحد تفرّعاتها تصل إلى سوق محلي، لم يكن فيه غرباء غيرها. ثمّ تصل إلى منطقة «باريو إل تيفولي» الشعبية، التي اتخذها ثوار هاييتي مركزاً لهم، وفيها منزل متواضع كان يسكنه فيديل كاسترو أثناء دراسته في سانتياغو دي كوبا. نهارٌ كامل أمضته الفتاة تسيح من دون أن تتعرّض لأي من أنواع التحرّش أو تشعر بعدم الأمان. الناس في كوبا إجمالاً ودودون، ويُبادرون إلى البدء بمحادثة. اكتفى من التقى الفتاة، بسؤالها من أي بلد تأتي، عارضاً عليها المُساعدة إذا احتاجتها. يمكن غريبين أن يسيرا في شوارع مدينة ترينيداد دي كوبا (328 كلم، جنوبي شرقي هافانا) الساحرة، حيث الشوارع مرصوفة بالحصى. ولما صادفا ثلاثة شبّان، لاحظوا أنّ الغريبين يبحثان عن مكان ما، فبادروا إلى تقديم المساعدة لهما بكلّ لطفة. السائحان الغريبان كانا يريدان التوجّه إلى «العيادة الدولية»، المُخصّصة للأجانب، ويُناوب فيها طبيب مع مُساعده، وفيها صيدلية. لا تتعدّى أجرة الطبيب في العيادة الدولية، وهي أشبه بغرفة طوارئ في مستشفى، مع الفحوصات وسعر الدواء، الـ55 كوك (ما يوازي 55 دولاراً. والكوك هي العملة الكوبية المخصصة للسيّاح. أما المحليون، فسيتعملون البيزو الكوبي، وسعر تصريفه 25 مُقابل كلّ كوك). السيّاح يدفعون بدل الطبابة. أما السكان المحليون، فكل استشفائهم وتطبّبهم شبه جاني. تحتل كوبا مرتبة متقدمة، في خدماتها الصحية، على البلدان ذات الدخل المتوسط والمرتفع، وهي تتفوق بمتوسط العمر لديها على الولايات المتحدة الأميركية. المديرة العامة السابقة لمنظمة الصحة العالمية مارغريت تشان، أشادت بالنظام الكوبي الصحي القائم على الوقاية، داعية إلى اتباعه من قبل البلدان الأخرى. على الرغم من ذلك، بقي صدى الأخبار الوهمية عن «جوهرة الكاريبي»، أعلى لدى من يتأثرون بما تريد الإدارة الأميركية أن نُصدّقه. تماماً كما يُرَوَّج بأنّ فيديل كاسترو «سَرق» عقارات الناس بعد الثورة، وأجبرهم على الهرب إلى ميامي. الحقيقة أنّ كلّ كوبي حالياً، يملك الأرض التي يعمل فيها. ولكن، «لا يحقّ لأحد بيع أرضه من دون موافقة الدولة»، يُخبر فلاديمير وهو يشرح عن زراعة البنّ. فلاديمير من مدينة فينياليس الصغيرة (غرب كوبا، وتبعد 179 كلم عن العاصمة)، والمعروفة بمنازلها الخشبية المُلونة وواديها الرحب المُصنّف تراثياً. تعتاش هذه المدينة الريفية على السياحة، فيُمكن ملاحظة العدد الكبير من الأجانب فيها، الفرنسيون خاصة. يقصدونها، أساساً، لاستكشاف مغاورها الطبيعية، وركوب الخيل في الوادي، حيث تنتشر زراعة التبغ والبنّ والفواكه الاستوائية. السياحة والزراعة عنصران أساسيان لكوبا في مواجهة الحصار. في إحدى الخيم الخشبية، كان يوجد أحد الشباب العاملين في حقل التبغ، التابع لعائلته. قصّ أعلى السيجار ودهن رأسه بالعسل قبل أن يُقدّمه. إنّها تقاليد تدخين السيجار الكوبية. ثمّ بدأ يشرح عن مراحل صناعة السيجار، منذ أن تبدأ زراعة التبغ في تشرين الثاني من كلّ عام. 90٪ من المحصول، تشتريه الدولة بسعر 80 دولاراً لكلّ 50 كلغ من التبغ، ويُخصّص لإنتاج سيجار العلامات التجارية. أما الـ10٪ الباقية، فيستخدمها مالكو التبغ لصناعة السيجار الذي يبيعونه مُباشرةً للمُستهلك، ومن دون علامة تجارية. كلّ رزمة من 20 سيجاراً بـ100 دولار.
يُسأل زائر كوبا، مع عودته، أسئلة مُضحكة، من نوع ما إذا كانت الكنائس موجودة أو «دمّرها كلّها كاسترو». لا تغيب دور العبادة المسيحية عن أي مدينة كوبية، ففي هذا البلد 11 كاتدرائية كاثوليكية، واثنتان للأرثوذكس، وواحدة للإنجيليين، فضلاً عن عشرات الكنائس والأديرة التابعة لمختلف المذاهب المسيحية، وفيها يُحتفل بالذبيحة الإلهية كلّ أحد. للديانة الإسلامية أيضاً وجود، ولو أنّ أتباعها قلّة. في شارع أوفيسيوس الهافاني، شُيّد مسجد عبد الله، مُقابل متحف «البيت العربي». هو مسجد بلا مئذنة، وتمنع الدولة إلقاء الخطب فيه من دون إذن منها. الماسونية أيضاَ مُشرّع وجودها في كوبا، وللجماعة محافل ناشطة على امتداد الجزيرة.
كوبا جزيرة خضراء. وتبدو الطرق السريعة التي تربط بين المُدن كأنها شُقّت داخل غابة ضخمة تكثر فيها البحيرات الصغيرة. ستُصادف أثناء تنقلك بين مدينتين عمالاً على الفاصل الوسطي لـ«الأوتوستراد»، يُشذبون الشجيرات الصغيرة والعشب. السيارات قليلة نسبة إلى دولة يعيش فيها نحو 11 مليون نسمة. فالحصار المفروض على الدولة الشيوعية منذ عام 1960، خلق أزمة نقل حادة. الموارد الأساسية للدولة تُنفق على الطبابة والتعليم ودعم المواد الغذائية. كذلك، كان استيراد السيارات متعذراً لفترات طويلة، فبات في كوبا أسطول كبير جداً من السيارات المصنوعة في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته وخمسينياته. حافظ مالكوها عليها، مع بعض الصيانة الضرورية، كاستبدال المُحركات بأخرى أحدث، إذا توافرت. صحيح أنّ السيارات الكلاسيكية تحوّلت إلى عنصر جذب سياحي في كوبا، ولكنّها «فُرضت» على الذين لم يتمكنوا من شراء غيرها، نتيجة الحصار الأميركي.
الحصار هو المسؤول الرئيسي عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يُعاني منها الكوبيون، وتتجلّى مثلاً بتأخر وصول قطع الغيار الكهربائية والإلكترونية، وانقطاع بعض السلع الغذائية. قد يُراسلك صاحب النزل في هافانا قبل وصولك بأيام، ليُنبهك إلى تغيير الغرفة بسبب عطل في المُكيّف، وعدم إمكانية الحصول على قطع الغيار قبل أسابيع. أما كارلوس (في فينياليس)، فيقول إنّه في بعض الأحيان يكون صعباً تأمين السمك. جزيرة ينقطع السمك في مدنها الداخلية! المشكلة أن أزمة النقل الناتجة من الحصار جعلت موارد الدولة متركزة في غير قطاع النقل، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وبالتالي، إن وجود شاحنات مبردة سيُستخدم لأولويات أخرى، غير نقل السمك من السواحل إلى المناطق الداخلية.
لا تقف كوبا مُتفرّجة على الحصار المُطبق عليها، بل تعمل على إيجاد بدائل لسدّ حاجات الناس، وتطوير بنيتها بما تَوَافر. متاجر الأغذية في الجزيرة، لا تُشبه غيرها في باقي الدول، بسبب بساطتها وقلّة الخيارات المُتاحة فيها. ولكن، إذا لم تجد أحد أنواع الشوكولا الشهيرة، أو البيرة والمشروبات الغازية المعروفة، فسيكون متوافراً ما يُعادلها من بضاعة مستوردة من الدول الصديقة لكوبا. وخلافاً لكلّ الادعاءات، الإنترنت مُتاح في الجزيرة، من دون وجود حظر على مواقع التواصل الاجتماعي. ولكن قبل أن تُصبح خدمة الجيل الثالث مُتاحة في البلد منذ 6 كانون الأول الماضي، لم يكن بالإمكان تصفّح الانترنت إلّا في الساحات العامة، حيث تتوافر خدمة الـ«الواي فاي». تُشترى بطاقة إنترنت من شركة الاتصالات المحلية «اتكسا»، وعليها رقم المُستخدم والرقم السرّي. كلفة الساعة دولار واحد. البطاقات غير متوافرة دائماً في «اتكسا»، ما سمح بانتشار السوق السوداء لبطاقات الإنترنت من سكان محليين يبيعونها بدولارين، مُستفيدين من حاجة السياح إلى التواصل.

الطبابة شبه مجانية لأبناء البلد، أما الأجانب فخُصّصت لهم «عيادات دولية»


منذ بداية القرن، سعت الدولة إلى تحويل السياحة إلى مصدر رئيسي للدخل. كثر من المواطينن يؤجرون غرفاً في منازلهم للسياح. وأنشئت شركة باصات («فياسول»)، مُنظمة جدّاً، تربط بين المدن، وتسير وفق أوقات مُحدّدة مُسبقاً، مع محطات توقّف معروفة. في مرّات نادرة، قد يتأخر الباص لينطلق أو يواجه عطلاً على الطريق. قليلٌ عدد المحليين الذين يستخدمون «الفيازول» في تنقلاتهم بسبب كلفته المرتفعة عليهم. خُصّصت لهم شبكة نقل محلية، مؤلفة من باصات قديمة، أو شاحنات جرى تحويلها محلياً إلى باصات. وهناك أيضاً، الـ«كوليكتيفو»، أي «السرفيس». يُستخدم داخل المدن أو للانتقال من مدينة إلى أخرى، ولكنّه «غير موثوق» دائماً. قد تدفع لسائق الـ«كوليكتيفو»، على أساس أن تحجز لرحلتك في سيارة عادية مع عددٍ مُحدّد من الأشخاص، ليتوقف بعد ساعتين في محطة من أجل تبديل المركبة، فتجد نفسك في باصٍ صغير مع عشرين شخصاً آخر، جالساً وظهرك مُتقوس لساعات. أما بين الشوارع الداخلية، فتُستخدم الدراجات الهوائية، التي تَحَوّل بعضها إلى «سرفيس»، تماماً كعربات الخيل والكوكو تاكسي (النسخة الكوبية من التوك توك).
في المدن الكوبية، الفقر سمة رئيسية، وكذلك الطراز المعماري الكولونيالي الذي جرت المحافظة عليه، تماماً كما الأبنية التي تعود إلى زمن الاتحاد السوفياتي. ومقابل الشوارع التي يغلب عليها الفقر، يوجد أحياء متوسطة الحال، أقرب إلى الطابع السياحي والمرصوفة بحجر «البافيه»، حيث البيوت مُرممة. القاسم المُشترك بينها، الأبواب المُشرعة. ومما يميز تلك المدن أيضاً، صعوبة ملاحظة فوارق طبية حادة.
الثورة حاضرة بشكلٍ كبير في كوبا. كلّما ابتعدت جغرافياً عن العاصمة، تشعر بـ«روحيتها» بشكل أكبر. لا يقتصر الأمر على أعلام «حركة 26 تموز»، والشعارات المطبوعة على الجدران، واللافتات التي تنتشر مع كلمات قادة «26 تموز». متاحف الثورة مُنتشرة في المدن، والمواقع العسكرية المرتبطة بالثورة تحولت إلى أماكن حجّ ثقافية - سياحية. يوجد في كلّ مدينة كوبية «ساحة الثورة»، تُخلّد فيها ذكرى أحد أبطال تلك الحقبة: تشي غيفارا في ساحة الثورة في هافانا، كاميلو سيانفويغوس في ساحة الثورة في سانتياغو دي كوبا… والثابت بين كلّ الساحات، وجود تمثال ضخم لخوسيه مارتي، مؤسّس الحزب الثوري الكوبي، وأول من دقّ ناقوس الخطر محذّراً، في القرن التاسع عشر، من أطماع الولايات المتحدة في دول أميركا اللاتينية. مارتي هو «الأيقونة» في كوبا. يلتمس المرء ذلك من خلال تماثيله المُنتشرة بكثرة، في كلّ شارع وحيّ كوبي. إضافةً إلى وجود «حديقة جوسيه مارتيه» العامة في جميع المدن الكوبية. الفضل في ذلك يعود إلى فيديل كاسترو، الذي يصف مارتي بأنّه «مُلهمه»، فحرص على أن يُبقيه خالداً، قبل أن تجمعهما مقبرة «سانتا أفيخينيا» (سانتياغو دي كوبا). المجد الذي أحاط كاسترو مارتي به، حجبه عن نفسه. كان الـComandante، يمنع إقامة نصب لأي من الرموز الأحياء للثورة. بقيت القاعدة مُطبقة عليه حتى بعد وفاته في الـ2016، فلا تجد أي نصب أو تمثال له، بخلاف صوره التي تكثر خارج هافانا. وقرب المدفن المهيب لمارتي، خُلِّد رماد فيديل في صخرة عُلّقت في وسطها لوحة رخامية تحمل اسمه.
الثورة تُدرّس في الصروح التربوية، وهذا جزء من الحفاظ عليها. داخل كلّ مدرسة تمرّ أمامها، سترى العلم الكوبي مرفوعاً وصور كاسترو وغيفارا وشعارات عن الاشتراكية والأممية، وخوسيه مارتي. تظهر نتائج هذه التربية في الوعي المُتكون لدى الكوبيين في مواجهة تحديات الحصار المفروض عليهم. صحيح أنّه يوجد بينهم من يُهاجر إلى فلوريدا أو ميامي «للبحث عن مستوى اجتماعي - اقتصادي أفضل، وليس لأسباب سياسية»، كما يُخبر الرجل في غوانتانامو عن ابنته التي تعمل «مُقابل 10 دولارات في اليوم». ومنهم من يشعر بالظلم، لكون «المعيشة رخيصه بالنسبة إلى السيّاح وليس لأبناء البلد»، فيضطر إلى البحث عن وظائف طابعها سياحي تسمح له بجني عملة الكوك، لتعويض النقص في السيولة. يوليو غانم، مثلاً، ابن سانتياغو دي كوبا من جذور لبنانية، درس الصحافة، ولكنّه يعمل نادلاً «لأنّ أجر الصحافي 12 كوك في الشهر». الحاجات تكبر وتختلف نوعيتها مع تقدّم الزمن، من دون أن تُشكّل خطراً على اشتراكية كوبا أو النظرة إلى الثورة. يصعب إطلاق هذا الحكم، لكن اللافت أن أغلبية من تلتقيهم يعبّرون عن رأيهم بـ«مكمن الخطر الحقيقي وطبيعة المعركة». منذ منتصف الشهر الماضي، تُعاني كوبا من التأخر في استيراد قطع الغيار للمطاحن، ما سبّب أزمة خبز. في ظلّ الحصار الجائر، كان يُمكن أزمة الطحين أن تكون مدخلاً لـ«ثورة شعبية» على النظام، كما يحصل في بلدانٍ أخرى. ولكن، يُمكن الارتكاز على كلام إحدى السيدات الستينيات، ردّاً على الأزمة الأخيرة. قالت ماتيلدا، لوكالة الصحافة الفرنسية: «علينا أن نصبر، لقد تمكّنا من البقاء واجتزنا أوقاتاً أصعب في الماضي، فلم لا نتجاوز أزمة انقطاع الخبز؟».