أدخل فيديل كاسترو ورفاقه كوبا إلى التاريخ ذات يناير قبل ستين عاماً، ولم يعد ممكناً الآن أن يخرجها أحد منه، رغم كل الصعوبات الاقتصادية والحصار الأميركي. لقد مات كاسترو بالفعل، لكن الكاسترويّة تبدو اليوم عصيّة على الموت، وأشجع في مواجهة المهمة الثوريّة الأخطر: ديمومة الثورة.«الوقت عنصرٌ مهمٌ للغاية في كل الأمور، والثورة لا يمكن إنجازها في يوم وليلة. لكن يمكنكم التيقّن بأنّ ثورتنا مستمرة وبأن الجمهوريّة ستكون لأول مرّة حرّة بالكامل، وسيحصل المواطنون فيها على العدالة المنشودة».
لا أوهام لدى القيادة الكوبيّة بشأن صعوبة الأوضاع الاقتصادية (أ ف ب )

تلك كانت كلمات الزعيم التاريخي فيديل كاسترو ببزته العسكريّة المهيبة وسيغاره الشهير يوم 3 يناير/ كانون الثاني 1959 وهو يطلّ على مواطنيه من شرفة بلدية سانتياغو دي كوبا، معلناً ولادة الأمة الكوبيّة الحرّة المستقلّة. وقتها، فولغنسيو باتيستا ــــ الديكتاتور الفاسد الذي حوّل الجزيرة إلى ماخور كبير للنخبة الأميركيّة وسلّم مواردها لشركاتها ــــ كان قد فرّ بحياته قبل ليلتين بعدما أيقن بالهزيمة، بينما دخلت قوّة الثوار التي كان يقودها الطبيب الأرجنتيني الكاريزمي أرنستو غيفارا العاصمة هافانا بالفعل، لكن طابور الثوار الرئيسي احتاج حتى الثامن من يناير قبل أن يصل إلى المدينة، ليس بسبب أي مقاومة فعلية من فلول النظام السابق بقدر ما كان نتيجة الاستقبالات الصاخبة التي لقيها كاسترو ورفاقه في كل مدينة وبلدة دخلوها خلال زحفهم المظفّر.
توّج كاسترو في هافانا مسيرة ثورة أطلقها ورفاقه قبل عقد من ذلك الوقت لتحرير كوبا بالعمل العسكري بعدما فشلت كل محاولاته (القانونيّة) للوصول إلى السلطة. لكن تلك اللحظة كانت أيضاً تتويجاً لنضال الشعب الكوبي عبر مئات السنين ضد هيمنة الإمبراطوريّات المتعاقبة منذ 1492 عندما رسا الأفّاق الدّولي كريستوفر كولومبوس على شواطئ الجزيرة الكاريبيّة الساحرة: الإسبانية، فالبريطانيّة ولاحقاً الأميركيّة. ولن ينسى أحد أن كاسترو وغيفارا وبقيّة الرموز لم يكونوا تاريخيّاً من دون كوكبة عريضة من المناضلين الشجعان الذين واجهوا الموت بشجاعة ليمكّنوا لرفاقهم لحظة الانتصار، كما التّأييد شبه الكامل للثوار في الأوساط الشعبيّة.
كلمات كاسترو عن عامل الوقت في سانتاغيو دي كوبا لحظة النصر تلك لم تكن هذراً. وقتئذ كان عدد العاطلين من العمل في كوبا أكثر منهم في كل الولايات المتحدة، ونصف الشعب أميّ وأغلبه مرضى وفقراء، ونصف الأراضي في يد نخبة متحالفة مع الأميركي لا تزيد نسبتها على 1.5% من مجموع السكان، بينما رأس المال الأميركي يسيطر بشكل شبه كامل على مناجم المعادن وصناعة السكر وشركات الخدمات الكبرى في البلاد. وتحولت العاصمة هافانا على يد نظام باتيستا إلى لاس فيغاس تديرها المافيات، وتتمحور الحياة فيها حول بيوت القمار وعلب الليل ونوادي الدعارة وما يرتبط بها من خدمات.
في 8 يناير 1959، لم تكن كوبا بذات أهميّة تذكر على الساحة الدوليّة. الأنظار حينها كانت كلّها على صراعات الحرب الباردة وحروب الشرق الأوسط وثورة العراق ومسألة تايوان، والإدارة الأميركيّة نفسها مشغولة داخلياً بمصاعب حزبيّة وقضايا فساد. ولذا في غفلة من العالم، نجح المحامي الثلاثيني الملتحي ورفيقه الطبيب الأرجنتيني الوسيم في القبض بسرعة على مفاصل السلطة في البلاد وأطلقا ثورة حقيقيّة لتغيير كل شيء في كوبا: في ملكية الأراضي والموارد، إلى التعليم والصحة، وانتهاء إلى الاصطفافات السياسية والفكريّة. الأميركيون، بعدما تأكدوا من عدم وجود أياد سوفياتيّة وراء الثورة، رأوا أن ما جرى يمكن البناء عليه، وأن كاسترو يمكن إعادة تأهيله أو في أسوأ السيناريوات إقصاؤه بسهولة، لكن سوء تقديرهم تكشّف مبكراً، فكاسترو كان عصيّاً على التأهيل وفشلت كل محاولات المخابرات المركزيّة الأميركيّة المتكررة لإقصائه، وانتهت الولايات المتحدة إلى فرض واحد من أطول الحصارات الاقتصاديّة في التاريخ على الجزيرة الصغيرة لا يزال مستمراً منذ 1960 إلى اليوم.
التغييرات الدستوريّة المقترحة تكرّس تجارب كوبيّة محليّة


يحق لكوبا أن تفخر بما أنجزته في ستين عاماً، رغم ذلك الحصار الظالم. النظام التعليمي والصحيّ الأفضل في العالم، ولم يعد هناك كوبي أميّ واحد، وترسل كوبا أطباءها المبدعين لمساعدة الشعوب الفقيرة في كل أميركا اللاتينية، وتتمتع فيها النساء بحريّات قانونيّة واجتماعيّة أفضل من تلك التي لدى الاسكندينافيّات. وقد مكن استقرار هذه التحولات في النسق الاجتماعي لكوبا من تحقيق تغييرات تدريجيّة في السلطة، إذ تنازل كاسترو الرئيس ــــ الرمز عن السلطة لمصلحة أخيه الثائر راوول، وفتح هذا الأخير، بكل ثقة، الباب لتولي رئيس مدنيّ (ميغيل دياز ـــ كانيل) إدارة البلاد منذ إبريل/ نيسان الماضي، وهو سياسي كوبيّ ولد بعد الثورة بعامين!
لا أوهام لدى القيادة الكوبيّة اليوم بشأن صعوبة الأوضاع الاقتصادية التي تعيشها، ولا سيّما بعد فشل محاولة نظام أوباما استيعاب كوبا من خلال تدفئة العلاقات. فالكوبيّون اعتادوا حريتهم التي انتزعوها من العالم انتزاعاً ولم يعد سهلاً تدجينهم، كما أن النظام الأميركي بعد ترامب لا يبدو مهتماً بأي شكل بأي تطوير للعلاقات، بل عمد إلى سحب معظم الدبلوماسيين الذين أرسلهم أوباما، بحجة تعرضهم لهجوم بسلاح سريّ غير معروف تسبب بإصابة عدد منهم بأعراض مرضيّة غريبة. لكن القيادة الكوبيّة الجديدة تعلم أيضاً أن شعبها لن يقبل بالعودة إلى مرحلة ما قبل 1959، وهو يضغط باتجاه تحقيق نقلات نوعيّة تغني التجربة الشيوعيّة وتمنحها مزيداً من المنعة والاستمرارية. وبالفعل فإن الرئيس دياز ـــ كانيل سارع بعد شهرين على توليه مهام منصبه إلى تقديم مشروع تعديل دستوريّ وافق عليه البرلمان في حزيران/ يونيو الماضي يشرّع لتلك التحولات ويمنهجها، وسيطرح للاستفتاء العام للحصول على موافقة شعبيّة يوم 24 شباط/ فبراير المقبل.
التغييرات الدستوريّة المقترحة تكرّس تجارب كوبيّة محليّة ــــ ألهمتها الخبرة الصينية ــــ في تطوير المنظومة الاقتصادية الشيوعيّة الطابع في البلاد من خلال السماح للمواطنين بحيازة أعمالهم الصغيرة الخاصة والتوسع بها، إلى جانب تعديلات تشريعيّة مهمة أخرى في المجالات الاجتماعية وهيكليّة الحكم تحرّم كل أشكال التمييز على أساس العرق أو الجندر أو القدرة الجسديّة وتكرّس حقوق المواطنين أمام القضاء وتقتصر مرات على إعادة الانتخاب للرئيس إلى مرّة واحدة فقط، بينما سيعاد منصب رئيس الوزراء من جديد لقيادة السلطة التنفيذيّة.
وعلى الرغم من أن المعارضين الكوبيين المتمركزين في الولايات المتحدّة دعوا المواطنين إلى التصويت ضد التعديلات في الاستفتاء، إلا أن معظم المهتمين بالشأن الكوبي يعتقدون بأن غالبية المقترعين ستؤيدها، وهو ما سيمنح كوبا مزيداً من القدرة على الصمود والتشبيك مع القاعدة الشعبيّة، ولا سيّما أن السّلطة فاجأت الجميع بسعة صدرها تجاه احتجاجات فئات مختلفة من المجتمع على تفاصيل إجرائيّة، وقدرتها على الإصغاء والتحاور معها، وعرضها في نقاشات على التلفزيوني الحكوميّ، ومن ثم تعديل تلك التفاصيل فعلياً. كما توجهت السلطات إلى التخفيف من القيود على التعبير الفنيّ والثقافيّ لمصلحة نوع من التشاور البنّاء مع صنّاع الثقافة والفنون حول المضمون الذي قد تحمله تلك الأعمال بدلاً من الخضوع للرّقابة المسبّقة الأحاديّة الاتجاه، ترافقاً مع إطلاق خدمة الجيل الثالث من الإنترنت التي تسمح لجميع الكوبيين بالوصول إلى الشبكة العالميّة بلا قيود.
كل تلك الديناميكيات الجديدة في المجتمع المعاصر حزباً وشعباً ليست ردّة عن النهج الثوري كما يدّعي أعداء الثورة الكوبيّة الكثر (في اليسار الغربي كما في اليمين)، بل هي تطور ديالكتيكي الطابع ونوع من ثورة بناء مستمرة بعدما تجاوز الكوبيون بفضل إنجازات ثورتهم التاريخيّة صراعات البقاء اليوميّ التي تعانيها مجتمعات العالم جلّها: الحق في العمل والتعليم والصحة والحماية القانونيّة، حتى لم يعد ممكناً واقعياً إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في هافانا. ويقرّ معظم المراقبين ــــ وفيهم معادون بشدّة لكوبا ــــ بأنّ نظام الرّئيس دياز ـــ كانيل أظهر إدراكاً شديداً لطبيعة معركته ضد النظام الرأسماليّ العالميّ، وفهماً لحقيقة كونها أصعب بكثير من المعارك العسكريّة التي خاضها الثوار لتحرير بلادهم من النخبة العميلة للإمبراطوريّة الأميركيّة قبل ستين عاماً. لكنه أيضاً نظام يستند إلى خبرة استثنائيّة في الصمود والاستمرارية من خلال التطوّر والتغيير والتكيّف، وإلى جيل كوبي جديد لم يعرف أبداً العيش في ظلام العبوديّة، ولذا فإن عبارة «إن مات كاسترو، فإن تراث الكاسترويّة يبدو عصيّاً على الموت» كما صاغها الأكاديمي الأميركي يورغ دوناي في حديث صحافي أخيراً تبدو أصدق تقويم عن الوضع في هافانا اليوم.
لن تصبح كوبا الصغيرة الجميلة صيناً شعبيّة أخرى بحكم الواقع، ولن تتعافى اقتصاديّاً من دون تضامن أوسع من بيئتها الجغرافيّة في أميركا اللاتينية ودول الجنوب عموماً، لكن هذه الجمهوريّة التي اقتحم بها كاسترو ورفاقه التاريخ، لم يعد بإمكان أحد أن يخرجها منه أبداً. لقد استجاب القدر.