العالم كلّه يعرفها، تلك الصورة المحفورة في الذاكرة الانسانية المعاصرة. الإمام الخميني يهبط درج البوينغ 747 التي حطّت للتوّ في مطار طهران، آتياً من بلدة نوفل لوشاتو الفرنسية، محطّته الأخيرة في منفاه القسري الذي دام 15 عاماً. كان ذلك قبل 40 عاماً. إنّها اللحظة التي ستغيّر ليس فقط وجه إيران، الرازحة آنذاك تحت نير نظام استبدادي، في قبضة الشاه الذي جوّع شعبه، وسلّم مقدّرات بلاده لأميركا، وتآمر مع «إسرائيل»… بل لن نبالغ إذا قلنا إنّها لحظة غيّرت وجه التاريخ!العالم بعد الثورة الاسلامية في إيران، ليس كما قبلها. والصحوة التي جاءت بعد مجموعة انتكاسات زعزعت العزيمة الشعبية، من سقوط حكومة مصدّق في طهران على يد المخابرات الأميركية والبريطانيّة، إلى وصول المشروع القومي إلى الطريق المسدود بعد رحيل جمال عبد الناصر وخيانة السادات، ليست سوى تجسيد لغضب شعوب هذه المنطقة العربية ـــ الاسلاميّة، بل قل شعوب العالم الثالث برمّتها، وتوقها إلى المجاهرة بهويّتها، واستعادة حقوقها وكرامتها، وانتزاع دورها في حركة التاريخ.
تلك اللحظة التي تندرج في صلب وعي وممارسة ثوريّين، نسغهما الاسلام، ونبضهما التوق إلى العدالة والحريّة، وإشعاعهما على قياس «ملعوني الأرض» في المقلب الجنوبي من الكوكب، رأى فيها المفكّر المصري حسن حنفي «انبعاث المشروع الناصري على المستوى الشعبي والاسلامي»: في شباط 1979، اقتحمت الجماهير التاريخ! أما بول بالطا، الصحافي والكاتب الفرنسي السكندراني (الذي رحل الشهر الفائت)، وكان شاهداً مباشراً على المرحلة التأسيسية للثورة في إيران، فتوقّف، من جهته، عند أوجه الشبه العديدة بين هذه الأخيرة والثورة الفرنسيّة.
ليس القصد طبعاً البحث عن شرعيّة ما، عبر التشبّه بالمرجعيّة الغربية، بل القول إن هذه الثورة التي تعمل أميركا على إخمادها وتشويهها وحصارها، منذ أربعة عقود، هي اليوم ملك البشريّة جمعاء، ولم تعد حكراً على عقيدة معيّنة، أو شعب دون سواه. اليوم، بعدما طال اختلال التوازن لصالح أميركا الساعية إلى إخضاع العالم لايديولوجيّتها ودولارها وبضائعها ومصالحها في نهب ثرواتنا، مانحة نفسها الحق في معاقبة من تشاء، وتصدير قيمها «الديمقراطيّة» بالقوّة، وفرض غطرستها ووصايتها على الأنظمة والشعوب… اليوم نستطيع أن نرى إلى أي مدى غيّرت الثورة الاسلامية المعادَلة. فكما انعكست قفزات هائلة في قلب إيران، فإنّها ألهمت «حركات تحرر» من نوع جديد في ديار العرب، ومكّنت شعوبنا من تحطيم أسطورة إسرائيل، ومواجهة المصالح الاستراتيجيّة للغرب ما بعد الاستعماري الذي يمضي في استعباد شعوب العالم الثالث، واستباحة حقوقهم.
كلا أيّها السادة، ليس «نزالاً أميركياً ـــ إيرانياً» فوق أرضنا، بحسب أصوات سمعناها في مناسبة زيارة وزير الخارجيّة الإيراني محمد جواد ظريف للبنان. ليس صراعاً نتفرّج نحن عليه كسيّاح محايدين، أو كضحايا مغلوب على أمرها، كما يخيّل لفئة مذعورة من «الانعزاليين الجدد»، أو كما يروّج سماسرة «الرجعيّات الخليجيّة» وعملاء الولايات المتحدة والانتهازيون الباحثون عن شرعيّة سياسية. إن الصراع الفعلي هو صراع اللبنانيين، جميع اللبنانيين، ومعهم العرب، وكل شعوب العالم الثالث، ضد الوحش الاستعماري الشره ووكلائه، من أجل كرامتنا واستقلاليتنا وحقوقنا المشروعة. نعم «أكثر من دواء وكهرباء وسلاح»… إنّها مسألة صراع وجودي من أجل حريتنا وكرامتنا وسعادتنا. ومن هذا المنطلق الوطني والأخلاقي والسياسي، نحتفل اليوم بذكرى الثورة الإيرانية. من مواقعنا المختلفة، إسلاميين وعلمانيين، قوميين ويساريين، ومواطنين ومواطنات. كأصحاب حق، وكمدافعين عن السيادة والكرامة، نتبنّى ما كتبه قبل 40 عاماً، الشاعر أدونيس: «شعبُ إيرانَ يكتبُ للشرقِ فاتحةَ الممكناتْ/ شعبُ إيرانَ يكتبُ للغربِ وجهُكَ يا غربُ ماتْ/ شعبُ إيرانَ شرقٌ تأصَّلَ في أرضنا ونبي/ إنه رفضُنا المؤسِسُ، ميثاقُنا العربي».