لم تُخفِ واشنطن يوماً ما رغبتها في توحيد حلفائها تحت مظلّة «تحالف» واحد لمواجهة خصومها سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً. ذلك هو جوهر سياستها في الشرق الأوسط منذ انسحاب بريطانيا من الخليج عام 1967، حين سعت إلى تشكيل «تكتل أمني» يشمل حلفاءها (من بينهم إيران) لحفظ الأمن من «التهديدات السوفياتية»، وصولاً إلى ما قبل الثورة الإسلامية عام 1979، التي أطاحت بشرطي الخليج ومنظومة «الحماية» السابقة. وفي ظلّ التركيز على إيران، التي استطاعت منذ الثمانينيات إرساء مفهوم جديد للمواجهة وفق مصطلح «الاستكبار» الذي أطلقه الإمام الخميني بوجه كل محاولات الهيمنة في العالم الإسلامي، يتجدد المشروع القديم في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بالدعوة إلى تشكيل تحالف على غرار حلف الـ«ناتو» لناحية نظام الدفاع الجماعي، يشمل من تسمّيهم واشنطن منذ توقيع اتفاقيات «كامب ديفيد» دول «الاعتدال» العربي.قَلَب ترامب نهج سلفه باراك أوباما، الذي وقّع الاتفاق النووي بعدما دعا إلى «الفهم المتبادل بين العالم الإسلامي والعالم الغربي» عام 2009، لكن الرئيس الخَلَف لم يصل بعد إلى مستوى المواجهة العسكرية، خلافاً لما قد يوحي به السعي إلى تشكيل الحلف. فالعنوان العريض لهذا الأخير لا يبدو خارج إطار الضغط السياسي على طهران، إذ إن ترامب ترك الباب مفتوحاً مع الإيرانيين، واضعاً كرة «اتفاق نووي جديد» بيدهم. حتى أن اللهجة الأميركية حافظت على «الواقعية» في مواجهة إيران، وبدا ذلك في الحقل المعجمي المستخدم أميركياً لدى الحديث عن الحلف، كـ«كبح سلوك إيران»، و«حل المشاكل سلمياً من دون الاضطرار إلى إطلاق رصاصة واحدة»، و«دفع إيران للتصرف بصورة لائقة»، علماً أن بروز الفكرة تزامن مع تشديد ترامب على أن واشنطن لن تحارب عن أحد، وأن على حلفائها تحمل تكاليف «الحماية» التي لن يستمروا «أسبوعاً واحداً» لولاها كما قال.

نزاع حول إيران... وليس معها
ثمة نزاعات خليجية وإقليمية ودولية تجعل تطلّع واشنطن إلى تشكيل حلف دولي بزعامة الرياض بعيد المنال. وفيما تمثل الأزمة مع قطر أحد أكبر العراقيل، لم تُبد الكويت استعداداً لمغادرة موقف الحياد، وعلى غرارها عُمان التي سبق ورفضت المشاركة في «التحالف العربي» ضد اليمن. إزاء هذا الواقع، تبحث واشنطن مع «خصوم» الرياض الخليجيين ضمان عدم تأثر التعاون العسكري والأمني بالخلافات، لما تحتوي تلك الدول من قواعد عسكرية أميركية، كقاعدة «العديد» في قطر (الأكبر في الشرق الأوسط)، و«معسكر الدوحة» و«علي السالم» في الكويت، وقاعدة «مصيرة» الجوية في عُمان. ذلك هو ملخّص ما خرجت به القمة الخليجية الأخيرة في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، بالدعوة إلى تفعيل «قيادة عسكرية خليجية موحدة»، بعدما حافظت واشنطن على خيط العلاقات العسكرية والأمنية بين حلفائها، سواءً بتواجد ضباط قطريين في القواعد الأميركية في البحرين، وضباط خليجيين آخرين في قاعدة «العديد»، أو من خلال اللقاءات العسكرية، كاجتماع قائد القيادة المركزية الأميركية، جوزيف فوتيل، مع رؤساء أركان دول مجلس التعاون ومصر والأردن في الكويت في 11 أيلول/ سبتمبر، ومشاركة قطر في مناورات «درع الخليج 1» مع الرياض والإمارات في المنطقة الشرقية، بالإضافة إلى تمرين «درع العرب 1» بمشاركة السعودية والإمارات والبحرين والكويت والأردن ومصر.
نزاعات خليجية وإقليمية تجعل التطلّع إلى تشكيل حلف بزعامة الرياض بعيد المنال


إقليمياً، تبدو الخلافات أعمق بين السعودية والأردن ومصر، بما يمنع انضواء الدول الثلاث في تحالف عسكري جاد، على غرار مشاركة مصر في «التحالف» ضد اليمن. وفضلاً عن الحساسيات التي شابت علاقات تلك الدول جراء الأداء الفاشل لولي العهد السعودي محمد بن سلمان في ما يتصل بـ«صفقة القرن»، ثمة منافسة قديمة - جديدة بين الدول الثلاث على قيادة تحالف عربي عسكري. والمفارقة، أن القاهرة وعمّان، اللتين أبرمتا منذ وقت طويل «معاهدات سلام» مع الاحتلال، تبدوان أقل تحمّساً لفكرة تحالف عربي عسكري بقيادة الرياض، وهو ما بدا في موقفهما المتذبذب من الدعوة الأميركية؛ إذ تلتزم مصر الصمت حتى الآن (لم تشارك قط في أحلاف أميركية عسكرية)، فيما يعتبر الأردن أن المشروع لا يزال «تصوراً في مراحله الأولى» و«يخضع للنقاش»، في ظلّ معارضة داخلية قوية تعتبر أن المشاركة «تتناقض مع المصلحة الوطنية العليا للبلاد».
موقف مصر والأردن نابع من طموحهما إلى القيادة، فهما سبقتا السعودية في الدعوة إلى تشكيل تحالف عسكري مماثل. آخر تلك الدعوات كانت عام 2015، حينما دعا ملك الأردن عبد الله الثاني إلى تشكيل «تحالف عربي إسلامي للتصدي للإرهاب»، ليلحقه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بعد شهر بالدعوة إلى تشكيل «قوة عسكرية عربية لِمواجهة الإرهاب». لكن السعودية قررت ضرب المشروعين معاً، بإعلان تشكيل «التحالف الإسلامي» في 15 كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه، والذي سرعان ما انكشفت هشاشته، حتى أن اجتماعه الأول عقد بعد عامين من الإعلان عن تأسيسه، بغياب قطر والعديد من الدول التي انسحبت منه كتركيا والجزائر وماليزيا وإندونيسيا وباكستان.

مشروع قديم ــ جديد
إلى جانب مواجهة إيران، ثمة أهداف أخرى للحلف الجديد في حسابات إدارة ترامب. أولها تجاوز العثرات التي واجهتها مشاريع عدة كانت الإدارة بادرت في تبنّيها بناءً على مقترحات سعودية وإماراتية وإسرائيلية، تتمحور حول إيجاد رؤية موحّدة (خليجية على الأقلّ) تجاه العلاقة مع إيران، وحلّ الصراع العربي - الإسرائيلي بما يرضي الاحتلال لإزاحة العراقيل من طريق التعاون الأمني والاستخباري والعسكري الإسرائيلي مع دول الخليج التي لم تبرم معاهدات «سلام» رسمية، ورفع القدرات العسكرية للدول المشاركة، وإيجاد آلية للتصدي لإيران سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. كل تلك المقترحات سرعان ما اصطدمت بالجدار، بفعل سياسات ابن سلمان التي منحت تركيا وإيران هامشاً أكبر في الخليج، وتعرقل «صفقة القرن» التي أتى الدفع في اتجاهها بنتائج عكسية، أعادت تزخيم القضية الفلسطينية، وزادت من حدة الخلافات بين دول ترى نفسها «معنية».
يبقى الهدف الأكثر واقعية للحلف، هو تعديل منظومة «الحماية» لأمن الخليج، بما يتطابق مع شعار «أميركا أولاً»، لتعويض القوات الأميركية بأخرى عربية وبتمويل عربي، بما يوفّر تكاليف طالما ذكّر ترامب حلفاءه بضرورة تحملها، فضلاً عما سيستتبعه تشكيل الحلف من صفقات أسلحة جديدة. وقد تجسّدت فكرة إعادة بلورة «الحماية» في أهم الأهداف المعلنة لـ«الناتو العربي»: إقامة درع صاروخية أميركية في الخليج. لكن ذلك أيضاً هو مشروع قديم يسعى ترامب إلى إحيائه؛ إذ سبق وأعلنت عنه هيلاري كلينتون عام 2012 (حينما كانت وزيرة للخارجية) من الرياض، بهدف حماية المنشآت الحيوية كالمصانع والمناطق النفطية في الدول الخليجية «من الصواريخ الإيرانية»، وأعاد طرحه وزير الدفاع الأميركي المستقيل، جیمس ماتیس، أمام الكونغرس مطلع عام 2016. وفي حال أقيمت الدرع، ما على الولايات المتحدة حينئذ سوى المراقبة، وتوريد السلاح والعتاد، وتدريب جيوش دول الحلف، فيما تتولى إسرائيل تقديم الدعم الاستخباري والتقني.