إنّها السابعة مساءً. لم تتعب السماء من «كبّ» خيرها. ركبنا الحافلة باتجاه منزل الشهيد الدكتور مصطفى أحمدي روشن. جميلةٌ طهران، كعادتها. وديعةٌ في ضبابها الرمادي. حينما زرنا آل روشن، لم يكن قد مضى الكثير على شهادته، ولا على زيارة المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، لهم. كل ما في ذاكرتنا صورة المرشد وهو يحتضن علي روشن، ابن الشهيد.
«تفضّلو»... الابتسامة تعلو وجه الوالد. دخلنا جميعاً، وجلسنا. ضيافةٌ «إيرانية» بسيطة. لم تفارق الابتسامة وجه الوالد، خصوصاً أنّه اعتاد مثل هذه الزيارات. تدخل الأم، تليها الزوجة، وتشخص الأنظار ناحية الباب، بانتظار علي الذي دخل واستقر بالقرب منّا، بعد طول عناء
***
منذ انتصار الثورة الإسلامية، بقيادة آية الله الخميني، عام 1979، والصراع مع الغرب لم يستكن. محطات كثيرة، وأوجه عديدة. «الصراع النووي» واغتيال العلماء. فقدت إيران 4 من كبار علمائها النوويين، بين 2010 و2012.
اتّخذت عمليات الاغتيال الأسلوب نفسه، ما يدلُّ على أن القاتل هو نفسه. درس الدکتور مجيد شهرياري والدكتور مسعود علي محمدي والدكتور مصطفى أحمدي روشن والدكتور داريوش رضايي نجاد في الجامعات الإيرانية، وتخرّجوا فيها بشهادات دكتوراه.
«سُمعة» الشهداء كانت «طيبة» حيث درسوا وسكنوا. وأشرفوا في الجامعات على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه، في الاختصاصات العلمية، فيزياء وكيمياء والهندسة النووية. فالتدرّج العلمي والمهني للشهداء الأربعة جعل منهم «قامات» في المشروع النووي. إذاً، عرف «القاتل» من يصطاد.
نَقل 300 طالب من اختصاص الهندسة، بفروعها، إلى اختصاص الهندسة النووية

لم يكونوا على تماس مع الضوء. يصفهم مرجع إيراني بارز بـ«صانعي العزّة»، إضافةً إلى «الأحياء» الآخرين، العاملين في «الظلّ، إلى أن يقضي الله أمراً محتوماً».
ورغم التعتيم العالمي حول العلماء الإيرانيين، والصمت الدولي إزاء اغتيال العقول، يتصلّب اليقين، أكثر، في الجهة المقابلة من المشهد. أهالي الشهداء يوجّهون أصابع الاتهام، دون أي تردد، إلى جهاتٍ ثلاث: الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل. أما الجهة الثالثة، فهي «وكالة الطاقة الذرية»، باعتبارها «متواطئة» في اغتيال «أبنائنا»، كما يقول والد روشن.
يثير المرجع الإيراني، في حديثه، أمرين أساسيين؛ الأول، هو مسار التخصص العلمي في المجال النووي. أما الآخر، متسائلاً، كيف انعكست الاغتيالات على المشهد الإيراني، من رأس الهرم إلى المواطن العادي؟
تجيب السير الذاتية للعلماء النوويين عن السؤال الأول. يوضح المرجع أن العلماء النوويين هم الجزء «الأساس» في المشروع. صناعة «وطنية 100%». العاملون فيه خريجو جامعات طهران، استطاعوا أن ينتجوا «العلم النووي» في بلادهم.
«لم يقتصر الإنتاج الوطني على المستوى النظري، فقط، بل تعدّاه ليكون عملياً»، بحسب المرجع. تصميم وتصنيع وتركيب أجهزة الطرد المركزي، صناعة إيرانية «محليّة». تخصيب اليورانيوم «محليّ»، أيضاً. والنتيجة «قلق» غربي إزاء التطور العلمي الإيراني، حيث «انتقلت جامعاتنا من مرحلة استيراد العلوم النووية إلى مرحلة إنتاجها». بتنا «ننافس» الغرب في هذا المضمار، «كل هذا ونحن تحت الحصار».
يضيف المرجع أن المشروع النووي أُحيط بـ«السريّة». زوجة روشن تنقل أنها لم تكن على علم بتفصيل عمل زوجها، سوى أنّه «موظف حكومي»، لا أكثر. يؤكّد المرجع أن العاملين في المشروع «الوطني» هم تحت «الظل، يريدون ذلك، لا خوفاً، بل إيماناً بالمشروع، وإخلاصهم له».
ورغم خسارة طهران لأربعة من أهم علمائها، إلا أن ذلك لم ينعكس سلباً على المشروع الإيراني، لسببين، بحسب المرجع؛ الأول، التنظيم المؤسساتي المتّبع في الدولة بملء الشغور، إضافةً إلى وجود العديد من الكوادر الكفوئين. أما الثاني، فهو القاعدة المتّبعة في الإدارة الإيرانية، «تحويل التهديد إلى فرصة»، ضمن إطار «ثبات الاستراتيجية، وضوح الهدف، تكتيكات عدّة».
أولاً، اهتمّت الإدارة الإيرانية بعوائل علماء النووي. بدا الحرص الكبير للمرشد الأعلى وجميع أركان الدولة على زيارتهم، وتسليط الضوء عليهم، بعد استشهادهم.
ثانياً، تفعيل برامج «مؤسسات مجتمع الثورة» وتكثيفها، والعمل على تثقيف الساحة الشبابية و«بناء وعيها» في الصراع مع الغرب. وهذا ما برَزَ، بعد الانتخابات الرئاسية لعام 2009، وتأكيد المرشد على ضرورة تحلّي «الأمّة بالبصيرة لمواجهة المخاطر».
ثالثاً، قبول التحدّي مع الغرب. لم يكتفِ المجتمع بتصدّي قيادته للصراع، بل عزّز دور الشباب في المعركة، معتقداً بضرورة «تحقيق نوع من التوازن» أمام الكمّ الهائل من تشويه صورة دولتهم، والحصار المفروض عليها.
***
تُستكمل «السهرة الطهرانية»، الهادئة. تنقل زوجة روشن أنّه «بعد شهادة مصطفى، نَقلت أنا و300 شاب وشابة، من مختلف جامعات طهران، من اختصاص الهندسة، بفروعها، إلى اختصاص الهندسة النووية».
أما والدة روشن فقالت في أسبوع ولدها، أمام الآلاف في جامعة طهران، «قال السيد حسن نصرالله (أمين عام حزب الله) إذا كان دم عماد مغنية سيخرج إسرائيل من الوجود، أريد أن أزيد... إن دم مصطفى سيأتي بالنصر لإيران في الملف النووي».