لندن | بدا أن لعنة «بريكست»، التي أنهكت المملكة المتحدة وأدخلت نخبتها السياسية في متاهة لا مخرج منها، قد انتقلت هذه الأيام إلى البرّ الأوروبي، حيث يُنتظر أن تتوصل 27 دولة أعضاءً في الاتحاد إلى توافق بالإجماع في قمة تعقدها يوم غدٍ في بروكسل، في شأن مطالبة حكومة تيريزا ماي بتمديد مهلة التوصل إلى اتفاق ينظّم مسألة إنهاء عضوية المملكة المتحدة في التكتل، إلى نهاية حزيران/ يونيو المقبل. وكان الاتحاد الأوروبي قد وافق، قبل نهاية مهلة 29 آذار/ مارس الماضي، على التأجيل لغاية 12 نيسان/ أبريل الحالي، في حال عدم حدوث اختراق في حفلة الجدل المستمرة في لندن، ومن ثم إلى 21 أيار/ مايو المقبل، أي قبل استحقاق الانتخابات البرلمانية الأوروبية في الـ23 من الشهر نفسه، وذلك في حال توصُّل الساسة البريطانيين إلى نوع من تصور موحَّد. الفرقاء الأوروبيون ليسوا سعداء بإبقاء الأمور معلّقة مع الجانب البريطاني إلى ما لا نهاية، وكثيرون منهم يمتلكون جداول أعمال سياسية واقتصادية على تماس مباشر مع ما ستخلص إليه أمور «بريكست». فالقوى المهيمنة داخل الاتحاد، وهي ألمانيا وفرنسا بالدرجة الأولى، تعلم أن مصير عضوية دول أخرى ــ ولا سيما إيطاليا وحتى فرنسا نفسها ــ قد يكون مرتبطاً بطريقة إدارة بروكسل للطلاق مع لندن. وقد تُفسَّر الليونة على نحو خاطئ، فتفتح الباب لسبحة من المشاكل العالقة التي ما زالت تُحلّ حتى الآن بسياسة تبويس اللحى، إذا جاز التعبير. مع ذلك، تتجنّب ألمانيا، تحديداً، الظهور كطرف حاسم في هذا الأمر، كي لا تؤجج مشاعر العدوانية الإنكليزية التقليدية ضدّها، بينما تكتفي بتمرير رسائلها الصارمة عبر سياسيّي بروكسل ــ برلين الصغرى ــ أو من خلال دبلن، المعنية الأساسية بتنفيذ ترتيبات ممكنة لـ«بريكست» على الأرض، عبر الحدود الفاصلة بين الجمهورية الإيرلندية والشطر الخاضع للتاج البريطاني في شمال إيرلندا. ألمانيا كانت، في السياق ذاته، قد أوحت إلى البرلمان الأوروبي بإصدار قرار يمنح حاملي جوازات السفر البريطانية حرية التنقل بين دول الاتحاد ــ دونما تغيير عن الوضع الحالي ــ إذا تأكد أمر إنهاء عضوية بلادهم ليلة 12 نيسان/ أبريل، فيما قرأه المراقبون على أنه غصن زيتون تجاه المواطنين الإنكليز. لكن عقدة الحدود الإيرلندية لا تزال، حتى الآن، نقطة أساسية تمنع تحقيق توافق بريطاني داخلي على «بريكست»، إذ إن تنفيذ مشروع اتفاق ماي مع الاتحاد ــ الذي رفضه البرلمان البريطاني بمجلسَيه العموم واللوردات ــ سيكون بمثابة اعتراف بوحدة الأراضي الإيرلندية على أرض الواقع، ما قد يمهّد لإجراء استفتاء مؤجّل في شأن توحيد الشطرين، وإنهاء الوجود البريطاني هناك إلى الأبد.
سيقع الثقل الأكبر في اتخاذ موقف حاسم هذا الأسبوع على عاتق ماكرون


من جهة أخرى، يمارس القوميون في إقليم اسكتلندا، الساعي للاستقلال عن لندن بعد قرون طويلة من التبعية، ضغوطاً للاحتفاظ بعضوية الاتحاد الأوروبي، واضعين القيادات الأوروبية تحت مسؤولياتها القانونية والأدبية تجاه خمسة ملايين أوروبي اسكتلندي كانت ثلاثة أرباعهم قد صوّتت في استفتاء حزيران/ يونيو 2016، لمصلحة البقاء في عضوية الاتحاد. في هذا الوقت، تتمنّع بروكسل عن دعم استقلال إقليم كاتالونيا عن إسبانيا، على رغم الرغبة الشعبية الساحقة هناك في كسر هيمنة مدريد. أما إسبانيا، فتفضّل حسم مسألة «بريكست» سريعاً، لأن ذلك سيفتح ملف إقليم جبل طارق الذي لا تزال النخبة الإسبانية تتعامل معه وكأنه مستعمرة بريطانية تريد تحريرها في أقرب وقت. وكان سكانه القلائل قد صوتوا بأغلبيتهم الساحقة في استفتاء عام 2016 لمصلحة البقاء في عضوية الاتحاد. من شرق أوروبا، قد تعارض بولندا تمديد المهلة من دون الحصول على ضمانات واضحة من لندن أو بروكسل، والأفضل كلاهما معاً، في شأن الوضع القانوني للجالية البولندية الكبيرة في بريطانيا، التي كانت قد تعرّضت لاعتداءات وجرائم كراهية من قِبَل العنصريين المتطرفين الإنكليز. كذلك فإن رومانيا التي تتعرّض لضغوط شديدة من الاتحاد لضبط الفساد المستشري في مستويات الدولة كافة، قد تلجأ إلى المناورة عبر التهديد بمعاكسة توجيهات محور برلين ــ باريس في القمة المقبلة.
مع ذلك، سيقع الثقل الأكبر في اتخاذ موقف حاسم في بروكسل، هذا الأسبوع، على عاتق الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي كان قد اجتمع، يوم الثلاثاء الماضي، مع رئيس جمهورية إيرلندا، ليو فارادكار، وصرّح من أعلى درجات قصر الإليزيه، بأنه «إذا لم تكن المملكة المتحدة بوارد التوصل إلى توافق داخلي في شأن ما تريده من بريكست، فإن ذلك يعني أنها اختارت الخروج من الاتحاد من دون اتفاق. نحن لا يمكننا أن نتحمل نتيجة فشلهم». وعلى الرغم من أنه لم يوصِد الباب على تأجيل محتمل لـ«بريكست»، إلا أن تصريحات سابقة له في شأن استدعاء روح ديغول لحسم التردّد البريطاني تشير إلى أن ماكرون، الذي يتعرّض لضغوط شعبية محرجة منذ عشرين أسبوعاً، قد يضطر قريباً إلى أداء دور الجنرال القوي، متلبّساً دور الرئيس الفرنسي الراحل، تشارلز ديغول، الذي مارس حق الـ«فيتو» مرتين (1963 و1967) لرفض قبول عضوية لندن في المجموعة الأوروبية. ويعتري السلطةَ الفرنسية القلقُ من تعالي العداوة الشعبية المحلية ضد الاتحاد الأوروبي، فيما قد يفتح تمرير «بريكست» مشرّف للإنكليز في وجهها ملف «فريكست» جديداً.
ماي التي تلعب في الوقت الضائع، قبل انتهاء مهلة 12 نيسان/ أبريل، ستحاول وفق مصادر في حزب «المحافظين» الحاكم، الاستفادة من أجواء التخوّف من «بريكست» بلا اتفاق مع الأوروبيين، وإعادة طرح مشروع اتفاقها على البرلمان للتصويت عليه للمرة الرابعة. لكن هامش انشطار المواقف داخل حزبها، كما في الشارع، الذي لا يلبث يتسع يومياً، قد يعني استحالة جمع أصوات كافية لتمريره في مجلس العموم. هذا التردد انعكس على الأرض، من خلال شروع وزارة الداخلية البريطانية في إصدار جوازات سفر جديدة للمواطنين بعد إزالة شعار الاتحاد الأوروبي عنها، فيما بدأت المدارس المحلية التي تعتمد عادة مقارّ تصويت انتخابي في الأحياء، بإبلاغ الأهالي بأن التحضيرات لجولة الانتخابات الأوروبية قد بدأت بالفعل، وأن تلك المدارس قد تغلق أبوابها أمام الطلاب طوال يوم 23 أيار/ مايو المقبل لاستقبال الناخبين.
أجواء التأزّم المتسارع هذه قد تدفع باتجاه استقالة الحكومة استباقاً لرفض أوروبي للتمديد، والدعوة إلى انتخابات عامة جديدة، كمخرج ممكن من الأزمة، وورقة أخيرة في جعبة ماي لتجنّب هاوية الخروج من دون اتفاق. وهو ما يبدو أن النخبة الحاكمة قد قرّرته، في ظلّ التصاعد الحادّ والمفاجئ في لهجة الهجوم على زعيم المعارضة، جيريمي كوربن، التي أغرقت صحف لندن اليمينية. وفي هذا السياق، أصدرت «ذي ديلي ميل»، مثلاً، ملحقاً من ثماني صفحات عن «كيف تخفي أموالك من كوربن (الماركسي!)»، بينما أفردت «ذي صنداي تايمز»، الصهيونية الأهواء، صدر صفحتها الأولى لتجديد اتهام الرجل بالعداء للسامية، وهي تهمة سهلة جاهزة تلجأ إليها النخبة البريطانية، كلّما اقترب طيف كوربن من تسلّم مفاتيح 10 دوانينغ ستريت ــ مقرّ الحكومة.