تشكّل الانتخابات الإسرائيلية مناسبة تتظهَّر خلالها مفاعيل الديناميات الداخلية والتطورات الإقليمية والدولية، وتنعكس على الخطاب السياسي والانتخابي، ومواقف القوائم المتنافسة وطروحاتها، انطلاقاً من رؤى وتقديرات حول كيفية مواجهة و/أو استثمار تطورات البيئة الخارجية، بما يتلاءم مع متطلّبات المرحلة التي يمرّ بها المشروع الصهيوني. ومع أن التنافس يقتضي مساحة من الاختلاف وتضارب المصالح، فإن ذلك لا يلغي حقيقة أن هذه القوائم تتقاطع في مساحات مشتركة واسعة. ومن أبرز ما تميزت به هذه الانتخابات أنها تجري تحت مظلة إقليمية وفّرتها لها عملية التسوية، وعبَّدت الطريق أمام الأحزاب الصهيونية للتنافس على مَن يتقدم على الآخر في التعبير عن حقيقة أطماعه التاريخية في الساحة الفلسطينية، مثلما يفعل اليمين الذي بات مهيمناً على المشهد السياسي. مرت البيئتان الإقليمية والدولية بعدد من المحطات شكَّلت كل منها منعطفاً في حركة الواقع السياسي الإسرائيلي. ويمكن إجمال مفاعيلها هذه بالقول إنها أزالت عقبات كان يمكن أن تحول دون تطور الأوضاع إلى ما هي عليه الآن على الساحة الفلسطينية، وشكلت دافعاً لمعسكر اليمين للانتقال إلى مرحلة ضمّ مساحة واسعة من الضفة المحتلة، بعد القدس والجولان، إلى إسرائيل. أهمّ هذه المحطات تتمثّل باتفاقات السلام، التي غيّرت موازين القوى الإقليمية وأطلقت يد إسرائيل في فلسطين، وكان يفترض أن تؤدي إلى دخول المنطقة في العصر الإسرائيلي ــــ الأميركي، لكن المقاومة في لبنان عادت وغيّرت مجرى التاريخ في لبنان والمنطقة.
بدأ هذا المسار من معاهدة السلام المصرية ـــ الإسرائيلية عام 1979 التي أزالت أهمّ عقبة عربية أمام اعتداءاتها التي توالت (اجتياح لبنان نموذجاً عام 1982). ولولا هذه المحطة المفصلية في تاريخ المنطقة، لكان من المؤكد أن حركة التاريخ ستذهب في اتجاه مغاير لما سارت عليه الأوضاع في فلسطين. في المرحلة التالية، أتى اتفاق أوسلو ليوفر غطاءً فلسطينياً للتوسع الاستيطاني، ويوفر خط دفاع (فلسطينياً) يفصل بين الشعب الفلسطيني وبين المستوطنات والجنود المحتلين. وما زالت تل أبيب تراهن على أن يؤدي الكيان الأمني ـــ السياسي الذي أنتجه «أوسلو» دوره الأمني الكابح لأي انتفاضة فلسطينية واسعة. أيضاً، كان النظام الأردني، وما زال، يؤدي دوراً جيوسياسياً مفصلياً في توفير بيئة آمنة لإسرائيل، فهو يشكل دولة حاجزاً بين فلسطين المحتلة والعمق العربي، ويحول دون إمداد الشعب الفلسطيني في الضفة بوسائل المقاومة.
يجري التنافس الانتخابي في ظلّ هيمنة واضحة لمعسكر اليمين


مقابل ما تقدم، تكفي الإشارة إلى الدور المفصلي الذي أدته إيران مع سوريا في دعم المقاومة التي حالت دون تكرار تجربة فلسطين في لبنان على مستوى الاحتلال والمستوطنات، وهو ما كان سينعكس في الواقع الداخلي الإسرائيلي على نحو مغاير جذرياً لما هو سائد الآن، فيما وفرت عملية التسوية الإقليمية مع إسرائيل المظلة التي يتغول تحتها الخطاب السياسي الإسرائيلي، ويتحول بفعلها تكريس الاحتلال بصيغته الحالية إلى أدنى الشرور بمعايير البعض. كذلك سمحت لبنيامين نتنياهو بالتباهي بالتطور الاقتصادي الذي شهدته إسرائيل، والترويج لمقولة أن القوة التي يتمتع بها الكيان جعلته أكثر حضوراً على المستويين الإقليمي والدولي.
استكمالاً لمخطط التسوية، جاءت الأحداث التي عصفت بالساحتين السورية والعراقية، وأدت إلى إضعاف هذين البلدين العربيين اللذين كانا، وما زالا، يواجهان تحديات وتهديدات أميركية بعد المواجهة التي خاضاها مع الإرهاب التكفيري. وقد أنتجت هذه المرحلة فرصاً لإسرائيل لم تكن متوافرة لها في السابق، من ضمنها أنها سمحت لها بشنّ اعتداءات متواصلة على الساحة السورية، يحرص نتنياهو على استحضارها في خطابه الانتخابي.
مع ذلك، وعلى رغم إزالة الموانع العربية أمام الخيارات العدوانية الإسرائيلية، واستكمال الطوق حول الشعب الفلسطيني، فإن ذلك لم يكن كافياً لاكتمال عناصر القرار الاستراتيجي الذي تتمحور حوله الانتخابات الإسرائيلية في ضمّ الضفة والمستوطنات، وهو ما استُكمل بحدثين متكاملين إقليمياً ودولياً: الأول تمثل في انتقال أنظمة الخليج إلى مرحلة التطبيع العلني مع إسرائيل، في رسالة صريحة بتخلّي هذه الأنظمة عن ربط مسار العلاقات مع تل أبيب بتقديم الأخيرة تنازلات جوهرية. والثاني تمثل في قرارات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي لم يعد الحديث عن الفرصة التاريخية التي وفرها مجرد تقدير، بل حقيقة تبلورت في الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبالسيادة الإسرائيلية على الجولان، وفي الانقلاب على الاتفاق النووي مع إيران. أمام تلك المستجدات العربية والأميركية، لم تستطع إسرائيل مقاومة الإغراء الذي وفره لها هذا التكامل بين البعدين الإقليمي والدولي، ولا سيما أنه تقاطع مع دينامية داخلية خلصت إلى إمكانية تحقيق الأطماع في كامل أرض فلسطين التاريخية، وهو ما تجلى خلال الحملة الانتخابية.
على المستوى الداخلي، تتّسم هذه الانتخابات بأنها تتمحور حول شخص رئيس الحكومة. فللمرة الأولى، تجري انتخابات في إسرائيل، في ظلّ اتهام رئيس حكومتها بالرشى والخداع، وهو ما قد يؤدي إلى سجنه في حال إدانته أمام المحكمة. ومما يميزها أيضاً، أن هذه القضية شكلت الخلفية التي على أساسها قُدِّم موعد الانتخابات، في خطة لجأ إليها نتنياهو لمواجهة المسار القضائي الذي يهدد مصيره الشخصي والسياسي، عبر التحصن بـ«شرعية» شعبية وسياسية استناداً إلى رهان على تحويل الانتخابات إلى استفتاء شعبي على قيادته.
الميزة الأكثر أهمية في الاستحقاق الحالي، أن التنافس الانتخابي يجري في ظلّ هيمنة واضحة لمعسكر اليمين على الساحة، وأنه يدور داخل القواعد الاجتماعية نفسها. ويعود ذلك إلى التركيبة الديمغرافية التي آل إليها المجتمع الإسرائيلي بعد مسار من التحولات، وهو ما يعني أن هذا المشهد سيرافق إسرائيل لفترات طويلة. ومن أبرز الفئات الاجتماعية التي تصوّت تلقائياً لأحزاب اليمين العلماني والديني: المهاجرون الروس، والمتدينون القوميون، والحريديم، والمستوطنون. وهكذا يصبح حكم اليمين أمراً مسلّماً به في أي انتخابات. وإذا ما استُثنِيَت الهوامش، فإنه لا توجد فروق جوهرية بين القوائم المتنافسة. كذلك، وفي سياق التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها إسرائيل، تبرز ظاهرة ما زالت تتطور منذ نحو عقدين، هي تراجع الأحزاب الكبيرة إلى المستوى المتوسط، وهو ما أدى إلى تعدّد مراكز الثقل في صناعة القرار السياسي، وتضخّم أدوار أحزاب باتت تؤثر في الخيارات السياسية بما يتجاوز حجمها الطبيعي.