تتعمّد قيادات سياسية لبنانية وعربية التعامي عن كل ما يكتب ويقال في الولايات المتحدة عن افتقادها لاستراتيجية فعلية، دولية وإقليمية، بسبب غياب الإجماع على الأولويات بين نخبها السياسية والعسكرية. دورية «فورين أفيرز»، الصادرة عن «مجلس العلاقات الخارجية» الذي يضم رموزاً بارزة من مختلف تيارات هذه النخب المعنية بالسياسة الخارجية، عنونت عددها الأخير بـ«البحث عن استراتيجية». وكان اضطراب سياسة الإدارة الأميركية الحالية تجاه منطقتنا، والتناقضات في مواقف مسؤوليها، قد أظهرا هذه الحقيقة بجلاء، إلا أن القيادات المذكورة مصرّة على تجاهلها والتمسك بالأوهام. لم تنجح الولايات المتحدة في بناء جبهة «سنيّة» ضد إيران، والأطراف المفترضون لهذه الجبهة يتنازعون في طول الإقليم وعرضه. وجودها العسكري في سوريا والعراق أضعف من أن يشكل رافعة ضد محور المقاومة. سياسة العقوبات القصوى التي تعتمدها ضد إيران وبقية قوى محور المقاومة، غير مضمونة النتائج. وهي لن تجد طرفاً وازناً يوافق على «صفقة القرن»، التي تنوي الإعلان عنها بعد الشهر الفضيل. لا يمكن للأوهام أن تكون أبدية. عادة ما تبددها الوقائع، ولو بعد حين. تسري هذه القاعدة، أيضاً، في مجال السياسة الدولية كما في مجالات أخرى. لكن الأوهام قد ترسخ أحياناً، ولفترات قد تطول، في أذهان البعض بسبب إصرارهم على عدم الإقرار بالحقائق العنيدة و/أو رفضهم لما قد يترتب عليها، خاصة إذا اضطروا إلى تقديم «تنازلات مؤلمة» وحصد الخيبات الناجمة عن خياراتهم.
التناقضات «الثانوية» تطغى على التناقض «الرئيسي»
أول الأهداف المُعلنة لإدارة ترامب، ونقطة الإجماع الأهم بين أطرافها، كانا احتواء ما تسميه النفوذ الإقليمي لإيران. أبرز الأفكار الفذّة التي طرحت لهذه الغاية، كانت إنشاء تحالف إقليمي يضم الدول «السنيّة المعتدلة». عقدت قمة في الرياض من أجل ذلك، منذ حوالى سنتين، في 21 أيار / مايو 2017. القمة العربية ــ الإسلامية ــ الأميركية جمعت بين الرئيس الأميركي وزعماء حوالى خمسين دولة عربية وإسلامية. لم يكد حبر بيانها الختامي يجف، حتى سارعت السعودية وحلفاؤها إلى محاصرة قطر. ومنذ ذلك التاريخ، يستعر الصراع في أرجاء الإقليم بين المحور السعودي ــ الإماراتي ــ المصري، المدعوم من الولايات المتحدة، والمحور التركي ــ القطري. الاحتدام المستجد للحرب في ليبيا، أحد مؤشرات هذا الأمر، كما انفجار المواجهات في تعز (اليمن)، بين «كتائب أبو العباس» المدعومة من الإمارات، والمجموعات العسكرية التابعة لـ«التجمع اليمني للإصلاح»، المدعومة في معظمها من قطر وتركيا. والواقع أن هذا الصراع، كما أكد روبرت مالي وحسين آغا في مقالهما الذي نشر في «الأخبار»، قد انفجر منذ عام 2011 مع بدايات الانتفاضات العربية، التي دعمت تركيا وقطر عدداً من أطرافها الرئيسيين، واعتبرتها دول الخليج الأخرى تهديداً وجودياً. الإصرار المستمر للجهات السياسية و«الأكاديمية» الغربية على مركزية العامل المذهبي السنّي ــ الشيعي في نزاعات المنطقة، لم ينجح في طمس حقيقتها، أي كونها، إذا اعتمدنا مفردات الخطاب نفسه، سنية ــ سنية بين أقطاب إقليمية، وفي داخل المجتمعات العربية والإسلامية. وهذه النزاعات، كما أسلفنا، مرشحة للتعاظم، ولن يفضي انحياز الولايات المتحدة إلى أحد محوريها سوى إلى دفع الآخر إلى المزيد من التقاطع، وربما إلى أكثر من ذلك، مع خصومها الإقليميين والدوليين. قد يكون النجاح الوحيد الذي حققته الولايات المتحدة في مجال سياستها الإقليمية، هو صفقات السلاح الضخمة التي عقدتها مع السعودية، وسعي رئيسها المستمر لإلزامها بالمزيد منها، وبعض الخطوات التطبيعية بين إمارات خليجية ثانوية وإسرائيل.

اتهامات ماكغورك
أحدث قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب قواته من سوريا صدمة لغالبية أعضاء إدارته وحلفائه الإقليميين والدوليين. عارض هؤلاء بشراسة القرار، وكانت حجتهم الأهم هي أن الانسحاب الأميركي سيسمح بتعزيز نفوذ إيران وحلفائها على المستوى المحلي والإقليمي، مع ما يعنيه من تهديد لمصالح حلفاء الولايات المتحدة، وفي مقدمتهم إسرائيل. أدّت هذه المعارضة إلى تراجع الرئيس عن قراره وموافقته على بقاء 200 من قواته في سوريا، إلى جانب «قوات سوريا الديموقراطية»، ووعده باستخدام القوات الأميركية الموجودة في العراق للتصدي لأيّ مخاطر قد تتعرض لها. أنصار بقاء القوات الأميركية في سوريا (والعراق) يرون أن هذه الأخيرة قد تستخدم كرافعة تتيح لواشنطن مواجهة «المشروع الإيراني» والمساهمة في صياغة معالم الحل السياسي النهائي في سوريا. بريت ماكغورك، المبعوث الرئاسي الخاص لـ«التحالف الدولي» المناهض لـ«داعش»، بين عامي 2014 و2018، والذي استقال من منصبه احتجاجاً على قرار الانسحاب في 22 من كانون الأول / ديسمبر الماضي، كشف في مقال في عدد «فورين أفيرز» الأخير، أن «الولايات المتحدة ستفشل، إن استمرت في محاولاتها تحقيق أهداف كبرى في سوريا». وبعد سخريته من فرضية أن وجود «حفنة من الجنود» ستجنّب إدارة ترامب ضرورة إعادة النظر في خطتها، يرى ماكغورك أن منع إيران من تعزيز وجودها العسكري في سوريا يتطلّب «منح إسرائيل دعماً ديبلوماسياً لضرباتها العسكرية التي تبتغي حرمان إيران من استخدام هذا البلد كمنصة صاروخية ضدها. هذا هدف مشترك مع روسيا التي تريد الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الحكومة الإسرائيلية، والحؤول دون تحوّل سوريا إلى ساحة معركة بينها وبين إيران. هذا الهدف المشترك قد يتحوّل إلى أساس لدبلوماسية ثلاثية بين إسرائيل وروسيا والولايات المتحدة، قد تسمح بدق إسفين بين موسكو وطهران حول سوريا». بكلام آخر، يوصي المبعوث الخاص السابق بالاعتماد على ضربات جوية لم يثبت أنها نجحت في منع عملية مراكمة القدرات تحت النار من قبل محور المقاومة، وبمحاولة الوقيعة بين روسيا وإيران، انطلاقاً من وجود خلافات بينهما في سوريا. وعلى الرغم من التجاذبات الفعلية بينهما، من المرجّح أن المشتركات الاستراتيجية بين طهران وموسكو، خاصة تلك المرتبطة بمواجهة الجموح الأميركي، كما أكدت مواقف الرئيس الروسي المعارضة للقرار الأميركي بوقف إعفاءات شراء النفط الإيراني، ومطالبته السعودية بعدم رفع سقف إنتاجها للنفط، ستحول دون نجاح المسعى الأميركي للوقيعة بينهما.

العقوبات القصوى وجدواها
سياسة أخرى تقدم على أنها جزء من استراتيجية أميركية جديدة وفعالة ضد إيران، هي تلك التي تستلهم استراتيجية إدارة رونالد ريغان ضد الاتحاد السوفياتي، أي استراتيجية العقوبات القصوى التي يفترض بها التسريع في استسلام إيران للشروط الأميركية أو حتى، لدى عدد من المتفائلين في إدارة ترامب، التسبّب في انهيار نظام الجمهورية الإسلامية. تثير هذه السياسة نقداً وسخرية حقيقية لدى الخبراء الجديين في الولايات المتحدة وخارجها، ويورد هؤلاء عدداً كبيراً من الأمثلة على فشل سياسة العقوبات في إضعاف أنظمة في بلدان ككوبا وكوريا الشمالية، وحتى عراق صدام حسين، التي قامت الولايات المتحدة باجتياحه عسكرياً لتسقط نظامه. ويرى آرون دافيد ميلر، الذي عمل مستشاراً في الخارجية الأميركية لمدة 24 عاماً، وريتشارد سوكولسكي، الذي عمل في الخارجية أيضاً لمدة 37 عاماً، في مقال نشر في صحيفة «وول ستريت جورنال»، أن سياسة العقوبات القصوى قد تزعج الإيرانيين، لكنها لن تحقق أياً من غاياتها الرئيسية.

«صفقة القرن»
لم يعد المسؤولون البارزون في الإدارة الأميركية يخفون الخطوط العريضة لـ«صفقة القرن»، التي سيتم الكشف عنها بعد شهر رمضان، والتي تتماهى تماماً مع المشروع الصهيوني الهادف إلى ضم القدس والقسم الأعظم من الضفة الغربية إلى إسرائيل، وحشر الفلسطينيين في معازل مكتظة تحت السيطرة العسكرية ـــ الأمنية للأخيرة. أيّ دولة عربية وازنة تستطيع الموافقة علناً على مثل هذا المشروع؟ هل تستطيع السعودية ومصر القبول به، مع ما سيستتبع ذلك من تبعات وردود أفعال داخلية وخارجية؟ أيّ قيادة فلسطينية مهما بلغ استعدادها للتفريط في الحقوق الوطنية مستعدة للموافقة عليه؟ ستفشل الصفقة كما فشلت عملية السلام المقبورة وسيطويها النسيان.
هذه المراجعة السريعة تفرض استنتاجاً واحداً، وهو أن أياً من الأهداف المعلنة غير قابل للتحقق إلا إذا كان البعض يراهن على إمكانية حرب كبرى تقلب الموازين وتجعل المستحيل ممكناً. ربما ينفع التذكير بأن الحروب الكبرى عندما تندلع، تعرف الجهة التي بادرت إليها ولكن يصعب التنبّؤ بما سيلي...