سيطر هذا الحزب على الإدارة عبر عملية شبه انقلابية إدارة ترامب نفذت جزءاً كبيراً مما تنص عليه «صفقة القرن»

التطورات والأحداث المتلاحقة في الأشهر الأخيرة تظهر أن فريقاً من المتشددين الأيديولوجيين والدينيين قد أحكموا سيطرتهم لدرجة كبيرة على عملية صناعة السياسة الخارجية الأميركية. إدارة دونالد ترامب، كما غيرها من الإدارات التي سبقتها، ضمت ائتلافاً من التيارات والشخصيات ذات الخلفيات المتباينة التي تقاطعت حول برنامج سياسي مشترك. لكن الذي حصل بعد ذلك لا سابق له في تاريخ الولايات المتحدة المعاصر، إذ قام تياران داخل الإدارة، الإنجيليون الصهاينة والمحافظون الجدد، بإزاحة من خالفهم الرأي تدريجياً من مواقع القرار فيها، بعد نجاحهم في الفوز بثقة الرئيس ومحيطه العائلي. وبات من الواضح أن إيصال الأوضاع إلى حافة الهاوية بين الولايات المتحدة وإيران كان ضمن مخطط وضعه الطرفان، وعملا على تنفيذه بدقة. المؤرخ والمفكر الفلسطيني رشيد الخالدي، الأميركي المولد واللبناني المنشأ حتى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، الحائز «كرسي إدوار سعيد للدراسات العربية المعاصرة» في جامعة كولومبيا ومدير «مجلة الدراسات الفلسطينية» في الولايات المتحدة، يشرح في مقابلة مع «الأخبار» طبيعة هذه التحولات الخطيرة وتداعياتها المحتملة على المنطقة. وللخالدي مجموعة من الكتب المرجعية عن القضية الفلسطينية والسياسة الأميركية وما سمي عملية التسوية، آخرها «حرب المئة عام على فلسطين: الاستعمار الاستيطاني والمقاومة»، سيصدر في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.
مجموعة من التغييرات المهمة داخل الإدارة الأميركية مهّدت، وفق المفكر والمؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي، للتصعيد الحالي ضد إيران، «منها إقصاء وزير الدفاع الأسبق جايمس ماتيس، وهو جنرال ورئيس أركان سابق، ومعارض للحرب مع إيران. فباتريك شانهان، الذي رشحه ترامب للمنصب كبديل لماتيس لا يتمتع بالقوة والنفوذ نفسيهما، ولا يمكن اعتباره ممثلاً عن رأي المؤسسة العسكرية كما كانت حال الأول. كان لماتيس وزن كبير لا تستطيع الإدارة تجاهله. أما شانهان، فهو غير مستعد لمواجهة الرئيس ومستشاريه». أما العامل الثاني، فهو «تحول الثنائي بولتون ــــ بومبيو إلى قطب رئيسي داخل البيت الأبيض. الجيش الأميركي لا يزال شديد التحفّظ تجاه الحرب، بل يمكننا حتى أن نقول إنه معارض لها لأنه يعتبر أن نتائجها ستكون سلبية على الولايات المتحدة. الأمر نفسه ينطبق على المخابرات المركزية. لكن لا يوجد في أعلى مستوى في الإدارة من يمثل هذه الآراء لأن بولتون وبومبيو نجحا في إزاحة أصحابها ولم يبقَ فيها سوى أنصار خيار الحرب. إيران في نظر هؤلاء تمثل الشر المطلق والمطلوب في النهاية هو إسقاط نظامها».
عامل آخر شديد الخطورة يشير إليه خالدي هو «دخول حلفاء الولايات المتحدة أو من يمثلهم مباشرة إلى الحلقة الصغيرة التي تصنع القرار. لم يسبق أن كان لإسرائيل أو للسعودية والإمارات دور في صنع القرار شبيه بما هو عليه الوضع اليوم. لا يمكن مقارنة ما يجري اليوم بما جرى حتى أيام إدارة بوش الابن. القرارات التي اتخذت كانت أميركية. الآن أصبح حتى تنظيم إرهابي، وفقاً للتصنيف الأميركي، كمجاهدي خلق، يؤثر إلى درجة ما في عملية صناعة القرار ويقوم بولتون بطرحهم كبديل من النظام الإيراني. الإسرائيليون طبعاً هم الطرف الأكثر نفوذاً، يليهم السعوديون والإماراتيون، وهم لديهم علاقات مباشرة وخاصة مع ترامب و(جاريد) كوشنير وبولتون وبومبيو. لم يكن ممكناً قبل سنتين تصور إقدام الولايات المتحدة على الدخول في مواجهة مع إيران قد تفضي إلى حرب كبرى، رغم معارضة الجيش والمخابرات المركزية». ويضيف: «الحرب العالمية الأولى بدأت بعد وقوع أخطاء في سياق مواجهة بين حلفين، ومن ثم اتسعت. هناك حلفان في الشرق الأوسط اليوم، ومن المحتمل أن يؤدي أي اشتباك بين أي طرفين من الحلفين، حتى لو كانا طرفين ثانويين وغير خاضعين لسيطرة كاملة من أميركا أو إيران، إلى اندلاع صراع عسكري قد يصل إلى مستوى حرب إقليمية. جميع هذه المعطيات مستجدة».
صاحب شعار أميركا أولاً لن يبدّي حياة الحلفاء ومصالحهم على حياة الأميركيين ومصالحهم


لكن، ألا يفكر حزب الحرب وحلفاؤه الإقليميون في نتائج وتداعيات أي حرب مع إيران على القوات الأميركية الموجودة في المنطقة وعلى هؤلاء الحلفاء، حتى لو تم إلحاق خسائر هائلة بإيران؟ فهي، مع حلفائها، قادرة على إلحاق خسائر فادحة بأطراف الحلف المعادي؛ «منذ سنة، كان هناك من يمثل المؤسسة العسكرية في الإدارة ويحذر من مغبة مهاجمة إيران لأنها قادرة على الرد في العراق وسوريا والبحرين وقطر وضد إسرائيل. لم يعد هناك من يمثلها اليوم. أما حلفاء الولايات المتحدة، فإذا اتخذ قرار الحرب، فستشن الأخيرة بمعزل عن خسائرهم المحتملة. صاحب شعار أميركا أولاً لن يبدّي حياة الحلفاء ومصالحهم على حياة الأميركيين المشاركين في الحرب ومصالحهم. ترامب لا يقرأ حتى الصحف الأميركية كنيويورك تايمز وواشنطن بوست. هو مدمن على فوكس نيوز التي تشجع الإدارة على مهاجمة إيران. وسائل إعلام اليمين الأميركي وجمهوره ليس لديهم اطلاع تفصيلي على أوضاع المنطقة وبلدانها وهم مجرد أدوات تحريض على الحرب».
ما وقع داخل الإدارة عملية شبه انقلابية أو مؤامرة قصر كما كان يقال في العصور الغابرة، تمخضت عن إزاحة قسم من الفريق الحاكم لقسم آخر ليستأثر بالسلطة. «التأمل في أسماء المشاركين في اجتماعات مجلس الأمن القومي يكشف وحده ما آلت إليه الأمور». في رأي الخالدي، أصبح بولتون يعقد اجتماعات مصغرة مع أشخاص يختارهم وفق هواه ولا يدعو إليها مديرة المخابرات المركزية، جينا هاسبل، مثلاً. «لقد أفرغت مجموعة بولتون ــــ بومبيو الدائرة المقربة إلى الرئيس ممن يعارض أو يختلف مع توجهاتهم وتم استبدالهم بأتباعها أو بمن لا يتجرأ على المعارضة. لقد تمكنت من الاستئثار برئيس لا يعرف العالم. معظم من وصلوا إلى موقع الرئاسة في الولايات المتحدة كانوا مطّلعين على أحوال العالم بدرجة أو بأخرى. باراك أوباما عاش خارج أميركا خلال مرحلة من حياته. جيمي كارتر كان قائداً لغواصة نووية. جورج بوش الأب خدم في سلاح الطيران خلال الحرب العالمية الثانية، وجون كنيدي شارك في معارك المحيط الهادئ خلال الحرب نفسها. ترامب، وهذا معطى في غاية الخطورة، لا يعرف العالم وهو إضافة إلى ذلك لا يقرأ. هو الشخص المثالي لكي يحاط ويدار من حزب الحرب بعملية تحريض وتعبئة يومية. وجوده على رأس هرم السلطة فرصة تاريخية لإنفاذ مخططات هذا الحزب للأسف الشديد، الذي يضم في صفوفه أشخاصاً كبومبيو وبنس، يعتقدون أن الحرب ضد إيران تمهد لعودة المسيح».
على المستوى السياسي، موقف الولايات المتحدة وحلفائها معزول. بقية القوى الدولية، كروسيا والصين والدول الأوروبية الوازنة، تعارض تصعيدها الحالي ضد إيران، لكن ليس لهذه المعارضة تأثير في موقف ترامب وسياساته. ووفقاً للخالدي «الرئيس الأميركي لا يأبه لمواقف الأطراف الدولية الأخرى، وخاصة إذا اعتبر معارضتها ضعيفة وغير مؤثرة في مجرى الأحداث. الاعتبار الأوحد الذي يحكم مواقف ترامب وسلوكه هو تأمين الشروط المناسبة لإعادة انتخابه. الخطاب المعادي لإيران ومناخ المواجهة معها مفيدان جداً لترامب ويعززان شعبيته في أوساط اليمين الأميركي. إنما التورط في حرب مكلفة سيرتد دون أدنى شك ضده. لكن ما أخشاه توريطه في مواجهة مع إيران تقود إلى حرب. نحن دائماً نفترض أن من في مقابلنا لاعب عقلاني، وسيتصرف وفقاً لما يمليه عليه التفكير السليم المستند إلى حساب دقيق للأرباح والخسائر». ويستدرك: «من المحتمل أن يخطئ هذا اللاعب بالحسابات، ويظن مثلاً أن قدرة إيران على احتمال الحرب وأكلافها ليست كبيرة، وأن التفوق التكنولوجي الأميركي النوعي سيسمح بحسمها بعمليات قصف جوي واسعة ومدمرة دون الاضطرار إلى غزوها برياً، فلا أحد يريد ذلك. قد يلجأ حزب الحرب إلى تقديم الخيار العسكري على أنه خيار محدود الكلفة ستمكن نتائجه ترامب، عبر القضاء على ما يراه تهديداً إيرانياً، من تأمين أفضل الظروف لإعادة انتخابه».
دليل آخر على سيادة مقاربات لاعقلانية لدى صناع القرار الأميركيين هو اقتناعهم بإمكانية موافقة أي قيادة فلسطينية أو دول وازنة في المنطقة على «صفقة القرن». يقول الخالدي: «إدارة ترامب نفذت نحو 80 أو 90% مما يتوجب عليها وفقاً لصفقة القرن. فنقلها السفارة الأميركية إلى القدس وموقفها من الأونروا واعترافها بضم الجولان، ما يمهد لاعترافها بضم إسرائيل مناطق واسعة من الضفة، جميعها قرارات تندرج في هذا الإطار. لقد منعوا أخيراً حنان عشراوي من زيارة الولايات المتحدة. وكان كوشنير قد أعلن في مقابلة صحافية أن لا إمكانية لقيام دولة فلسطينية. على ما يبدو، حلفاء الولايات المتحدة غير قادرين على قبول هذه الصفقة. الأردن مستاء إلى أعلى الدرجات من الدور الذي رسم له في هذه الصفقة. المعلومات تشير أيضاً إلى أن كوشنير لم ينجح خلال جولته في الخليج في شباط الماضي في إقناع حلفائه بالمضمون السياسي للصفقة. وفي مصر، هناك معارضة داخل الدولة والجيش لأي تنازلات عن أراضٍ في سيناء قد تقدم، كما تنص الصفقة، لتكون جزءاً من أراضي كيان فلسطيني ينشأ تحت الإشراف الإسرائيلي».