قد يمنّي قادة الاتحاد الأوروبي أنفسهم، بعد ظهور نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، ببقاء الحزب «الشعبي الأوروبي» و«الاشتراكيون الديموقراطيون»، في صدارة القوى المؤلّفة للبرلمان. لكن هذا الارتياح يبقى منقوصاً، في ظل واقع جديد وهو أن هاتين القوّتين فقدتا قدرتهما على تشكيل أغلبية بمفردهما، من أجل إمرار نصوص تشريعية.بقي الحزب «الشعبي الأوروبي» (يمين مؤيد لأوروبا)، القوة الأولى، إلا أنه شهد تراجعاً كبيراً، ذلك أنه بات يشغل 179 مقعداً مقابل 216 قبل الانتخابات، لكن ذلك لم يمنع قادة هذه الكتلة من المطالبة بأن يترأس زعيمهم مانفريد فيبر المحافظ المثير للجدل، المفوضية الأوروبية، الأمر الذي قابله «الاشتراكيون الديموقراطيون (150 مقعداً مقابل 185 في الدورة السابقة)، بالرفض، ما ينذر بمفاوضات طويلة وشاقة في السباق الذي بدأ على المناصب الأساسية في المؤسسات الأوروبية.
ومن أجل مواجهة المد الشعبوي الأخير الذي اجتاح البرلمان الأوروبي، بات يتحتّم على هاتين القوّتين مشاورة دعاة حماية البيئة، الذين ارتفع عدد مقاعدهم من 52 إلى سبعين، بفضل النتائج الجيدة التي سجلوها في فرنسا وألمانيا، والليبراليين بمن فيهم حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذين حصلوا على 107 مقاعد مقابل 69 في البرلمان السابق.
لكن هذه المشاورات تخفي خسارات على مستوى آخر لماكرون وغيره من قادة التكتّل، الأكثر تمسكاً بتعميق البناء الأوروبي ــــ مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ــــ والذين شهدت أحزابهم تراجعاً أمام اليمين المتطرّف. فقد خسر الرئيس الفرنسي هذه الانتخابات أمام حزب «التجمّع الوطني» اليميني القومي، الذي تقوده مارين لوبن، في نتيجة يمكن أن تؤثر على تطلعاته للقارة العجوز. وبحسب النتائج النهائية التي أصدرتها وزارة الداخلية الفرنسية، أمس، تصدّرت قائمة «التجمّع الوطني» نتائج الانتخابات الأوروبية في فرنسا، متقدمة 0,9 نقطة على قائمة «النهضة»، المدعومة من الرئيس ماكرون، بحصولها على 23,31% مقابل 22,41%.
أما في ألمانيا، فقد وجدت حكومة أنجيلا ميركل نفسها في حالة عدم يقين غير مسبوقة، بعد النتائج التي شكلت صفعة ليس فقط لـ«المحافظين»، بل أيضاً لحلفاء المستشارة «الاشتراكيين الديموقراطيين»، ما يزيد من الشكوك بشأن إمكان بقائها حتى نهاية ولايتها. ويضمّ الائتلاف الكبير الحاكم في ألمانيا حزب «الاتحاد المسيحي البافاري»، وحزب المستشارة «الاتحاد المسيحي الديموقراطي»، و«الحزب الاشتراكي الديموقراطي« الألماني. وقد اعترف رئيس الحزب المحافظ، «الاتحاد المسيحي البافاري» ماركوس سودير، حليف ميركل، بأن «الائتلاف الكبير لم يحقق نتيجة جيدة».
أحكم ماتيو سالفيني قبضته على الحكومة الشعبوية الحاكمة في إيطاليا


وحقق التشكيلان المحافظان معاً نسبة 28,9% من الأصوات، لكن «الاتحاد المسيحي الديموقراطي» وحده تراجع سبع نقاط، بالمقارنة مع الانتخابات الماضية إلى 22,6%. غير أن المشاكل الأكثر خطورة يعانيها «الحزب الاشتراكي الديموقراطي»، الذي قد تطيح أزماته الائتلاف الحاكم. ورأت صحيفة «بيلد» الألمانية أن «انهيار الحزب الاشتراكي الديموقراطي يهزّ الائتلاف» الحاكم. ولم يحقّق «الاشتراكيون الديموقراطيون» سوى 15% من الأصوات، متراجعين بأكثر من 11 نقطة، بينما ضاعف «الخضر» نتيجتهم السابقة لينالوا 20,5%، فارضين أنفسهم القوة السياسية الثانية في البلاد.
إيطالياً، أحكم الرجل القوي في السياسة ماتيو سالفيني قبضته على الحكومة الشعبوية الحاكمة، بحصول حزب «الرابطة» على الصدارة، فيما تراجعت أصوات حليفته «حركة خمس نجوم» إلى 17%، وفق نتائج شبه نهائية. وحصلت «الرابطة»، هذا الحزب الانفصالي الشمالي سابقاً، على 34,3% من الأصوات، في حين أنها بالكاد تجاوزت نسبة 6% في الانتخابات الأوروبية عام 2014. وكانت قد حصلت على 17% في الانتخابات التشريعية، التي أجريت في آذار/ مارس 2018. وقلبت هذه النتيجة بالكامل ميزان القوى مع «حركة خمس نجوم»، الخاسر الأكبر بحصولها على 17% من الأصوات، وهي نسبة بعيدة جداً عن النسبة التي حققتها في آذار/ مارس 2018 (32,5%).
بناءً على هذه الأرقام، دعا «التجمّع الوطني»، على الفور، إلى «تشكيل مجموعة قوية» في البرلمان الأوروبي، تضم المشكّكين في جدوى الوحدة الأوروبية. وفي السياق، تأمل لوبن، مع حزب «الرابطة»، تشكيل تحالف يضم الأحزاب القومية والمشكّكة في أوروبا والشعبوية. وتشير التوقعات إلى أن كتلتهم ستشغل 58 مقعداً مقابل 37 في البرلمان الحالي. لكن من الصعب التكهّن بتقارب مع المجموعة الشعبوية التي تضم «حركة خمس نجوم الإيطالية»، ويتوقع أن ينضم إليها حزب «بريكست» المعادي لأوروبا الذي فاز بـ 31,8% من الأصوات في بريطانيا، بسبب الخلافات العميقة بين المجموعتين.
وحتى إذا أضيفت نتائج الكتلتين إلى المقاعد الـ 58 التي حصدتها مجموعة «الأوروبيين المحافظين والإصلاحيين» (تضم في صفوفها حزب «المحافظين» البريطاني والحزب الحاكم في بولندا الفائزين بالانتخابات الأوروبية)، وكذلك اليمين القومي والمشكّكين في أوروبا... فلن تشغل أكثر من 172 مقعداً، وهو رقم بعيد عن الأغلبية المحدّدة في البرلمان بـ 376 مقعداً.
وعلى هذا الصعيد، قال المحلّل في «مؤسسة روبرت شومان»، إيريك موريس، إن «موجة الأحزاب القومية والمشكّكة في أوروبا تم احتواؤها، إذا استثنينا التجمع الوطني والرابطة». وأضاف: «إذا لم يتحرك (الزعيم الشعبوي المجري أوربان)، فلا أرى كيف يمكن أن تتغير خطوط المجموعات الحالية». وحزب رئيس الوزراء المجري الذي حقق فوزاً كبيراً في بلده، عُلّقت عضويته في «المجموعة الشعبية الأوروبية»، بسبب خلافاته مع المفوضية الأوروبية.
بالتالي، فإن إعادة تشكّل المشهد السياسي هذه ستكون حاسمة للسباق إلى المناصب الأساسية في المؤسسات الأوروبية، وخصوصاً رئاسة المفوضية خلفاً ليونكر من الحزب «الشعبي الأوروبي». وقد ذكر المتحدث باسم البرلمان الأوروبي خاومي دوش أن «لا أحد يمكنه أن يصبح رئيس المفوضية، بدون أن يحصل على دعم 376 من أصل 751 نائباً أوروبياً». وسيعقد رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي، اليوم، قمة للبحث في التعيينات المقبلة.