التحذير الذي أطلقه السيد حسن نصر الله من أن عدواناً عسكرياً أميركياً على إيران سيُلهب المنطقة كلّها، وسيُعرّض القوات والمصالح الأميركية فيها للإبادة، يجب أن يؤخذ على محمل الجدّ، كلّ الجدّ، سواء أتعلّق الأمر بأميركا والكيان الصهيوني، أم بمحور المقاومة، ولا سيما بالنسبة إلى الفلسطينيين، خصوصاً في قطاع غزة والقدس والضفة الغربية. جاء هذا التحذير في ظروف غلّب الكثيرون فيها عدم احتمال اندلاع الحرب، وذلك على الرغم من أن أميركا تقدّمت خطوات باتجاه الحرب، عندما أرسلت أكبر بارجتين من حاملات الطائرات، وراحت تعزّز من قواتها في المنطقة، والأهم أنها شدّدت الخناق المالي والنفطي والاقتصادي على إيران سعياً إلى هدف صفري.هاتان السياستان تعنيان الحرب، بل هما حالتا حرب، ومن ثمّ لا يجوز أن يُخدع أحد بالتصريحات التي أطلقها دونالد ترامب، ووزير خارجيته مايك بومبيو، من أن أميركا لا تريد الحرب. فالأفعال، من جهة، أصدق إنباءً من الكتب ومن الأقوال. ثم كيف، من جهة أخرى، يمكن أن تقبل إيران أن تحاصَر حصاراً صفرياً ولا تسعى إلى كسره والخروج منه، ثم يُركن إلى أقوال تصدر من هنا وهناك عن أن أميركا لا تريد الحرب؟ البعض احتجّ، أيضاً، بإبعاد البوارج الأميركية عن المياه الإقليمية الخليجية مئات الأميال البحرية، وبما يعادل ألف كيلومتر، معتبرين ذلك دليلاً على تجنّب الحرب من قِبَل أمريكا، علماً أن هذا الإبعاد ذو وجهين: أحدهما، وهو الأضعف، الاستنتاج بأنه دليل على ابتعاد احتمال الحرب. وثانيهما، وهو الأقوى، أن ذلك استعدادٌ للحرب وابتعادٌ عن مدى الصواريخ الإيرانية، فضلاً عن دقة الإصابة، والقدرة على الرصد. ثم لماذا لا تُعتبر القمّتان الطارئتان العربية والخليجية، وما صدر عنهما من إدانة لإيران، تمهيداً للحرب الأميركية، خصوصاً بعدما تبيّن أن إدارة ترامب وضعت ثقلاً مقدراً في الضغط على بعض الدول العربية لحضور المؤتمرين؟
مما تقدم، يمكن أن يُقرأ توقيت التحذير الحازم الصارم من قِبَل السيد حسن نصر الله، أي رجحان الإعداد الأميركي ــــ الصهيوني للحرب على إيران. فالتوقيت تلاقى مع عقد القمتين، ومع إبعاد البوارج والسفن الأميركية مئات الأميال البحرية من شواطئ الخليج ومياهه الإقليمية. وبكلمة أخرى، لو لم يكن احتمال شنّ الحرب (العدوان الأميركي) قد اقترب جداً، لما كان ذلك التحذير بما يحمله من تكلفة سياسية، أو في الأدقّ بما يسمح به من استغلال من قِبَل المتربصين. فهو تحذير ضروري مهما كانت الأكلاف، وذلك لتفكر أميركا ألف مرة قبل الإقدام على الحرب، عدواناً عسكرياً، أو حصاراً خانقاً صفرياً.
قد يتساءل البعض مِمَّن يحبون أن يضحكوا على أنفسهم، أو مِمَّن يختبئون وراء إصبعهم، قائلين: لماذا تلتهب المنطقة كلّها ضد أميركا إذا شنّت الحرب على إيران؟ فالنأي بالنفس خيرٌ وأبقى. ولكن هؤلاء لا يعلمون ماذا تعني إيران للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وماذا تعني في الصراع التاريخي العربي ــــ الصهيوني بالنسبة إلى الأمن القومي العربي، ولردع التفوق العسكري الصهيوني الذي عانت منه المنطقة طوال ستين عاماً، أو قُلْ إلى بداية الهزائم العسكرية للكيان الصهيوني، ابتداءً من 2006 في لبنان، و2008/2009 و2012 و2014 في قطاع غزة.
الكلّ يجب أن يتذكر كيف قامت الاستراتيجية العسكرية للكيان الصهيوني، منذ قيام دولة الكيان، على أساس امتلاك تفوّق عسكري كاسح ماسح في كلّ مجالات الحرب، ضدّ أي جيش عربي أو عاصمة عربية، وإذا شِئْت حتى إسلامية. وهذا ما يشهد عليه تاريخ الحروب التوسّعية والعدوانات التأديبية التي شنّها الجيش الصهيوني على دول الطوق، وصولاً إلى بغداد وتونس، بل حمل هذا التفوق ــــ من بين ما حمل ـــــ امتلاك مئات القنابل النووية ووسائط نقلها. أما من الجهة الأخرى، فقد قامت استراتيجية الغرب في تسليح الجيوش العربية على أساس إبقاء التفوّق الصهيوني كاسحاً، فيما شارك الاتحاد السوفياتي في إبقاء سقف التسلّح العربي دون السقف الذي عليه تسلّح الجيش الصهيوني، ولو بهذا القدر أو ذاك.
هنا، ما ينبغي لأحد أن ينسى عدوان حزيران/ يونيو 1967، وما ألحقه من هزيمة عسكرية بعدد من الجيوش العربية، وما حقّقه من توسّع شمل سيناء والجولان والضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، فضلاً عما وجّهه من ضربة قاسية إلى حركة التحرر العربي، ما زالت تعاني من آثارها السلبية حتى اليوم. ثم ما ينبغي لأحد أن ينسى العدوان الصهيوني عام 1982 على لبنان، وإرسال قيادة «م.ت.ف» إلى المنفى التونسي، وما أدى إليه من آثار سلبية وصلت إلى كارثة اتفاق أوسلو وما بعده.
إن تذكّر معادلة تفوّق الكيان الصهيوني بميزان القوى العسكري، وما حملته من إذلال سياسي وعسكري ومعنوي ونفسي، يتيح إدراك معنى ما أسهمت به إيران في معادلة موازين القوى، وذلك على مستوى قدراتها العسكرية واستراتيجية المواجهة مع العدو الصهيوني والإصرار على عدم شرعية وجوده، كما على مستوى دعمها للمقاومتين في لبنان وقطاع غزة، وما تسهم فيه الآن على الأرض السورية (طبعاً من خلال دور سوري رسمي فعال) من تعزيز لترسانة صاروخية تزيد من اختلال معادلة ميزان القوى في غير مصلحة الكيان الصهيوني. هذه المعادلة الجديدة أفقدت الجيش الصهيوني تفوّقه الميداني البري، وجعلت من أيّ حرب يشنّها هزيمة لا تسمح له بتحقيق فوز عسكري كما حدث في العامين 1967 و1982 على سبيل المثال لا الحصر، كما ضَمِنت أن يُنزَل بمدنه ومواقعه العسكرية وبناه التحتية من الدمار والخسائر ما لم يعرفه من قبل، وما ينبغي أن يحسب له ألف حساب.
ولهذا، فإن الحرب التي تستهدف ضرب إيران هي في جوهرها حربٌ على فلسطين، وفي مصلحة عودة التفوّق العسكري الصهيوني لإعادة إذلال العرب والمسلمين مرة أخرى، وضمان تصفية القضية الفلسطينية من خلال الارتداد العسكري فوراً على لبنان وقطاع غزة وسورية، وإنهاء الوضع المقاوم. الأمر الذي يعني أن الوقوف من قِبَل المقاومات ضد العدوان العسكري الأميريكي ــــ إن وقع ـــــ هو وقوف من أجل فلسطين، وضد تكريس احتلال القدس والضفة الغربية وكل فلسطين، بالتالي. وعبثاً، يمكن المقاومة في قطاع غزة، أو التحرك الشعبي في القدس والضفة، أن يقفا متفرّجين في انتظار تدميرهما وتصفية القضية الفلسطينية (تصفية القضية هنا تصبح لا سمح الله حقيقة لا وهماً).
على أن قراءة دقيقة لمعادلة موازين القوى الراهنة تؤكد (أكثر مِن ترجّح) أن العدوان الأميركي ــــ الصهيوني سيفشل، بل يجب أن تتحوّل الحرب ــــ إن وقعت ـــــ، وبالمشاركة الفلسطينية الفاعلة، إلى حرب تحرير القدس والضفة الغربية، ولا يجوز أن تنتهي بصدّ العدوان أو وقفه فقط، ومن ثم لا تكون حرباً بين إيران وأميركا، بل هي حرب فلسطين، حرب تحرير القدس ودحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات بلا قيدٍ أو شرط، ومن ثم وضع القضية على سكة تحرير كل فلسطين. هذا الفهم لهذه الحرب هنالك مَن لا يقبلونه؛ لأنهم ببساطة لا يضعون أولويتهم قضية القدس وفلسطين، ولا مشكلة عندهم في ما عانته الأمة العربية من إذلال وكوارث بسبب التفوّق العسكري الصهيوني، وعليه ما معنى ــــ بالنسبة إليهم ـــــ أن يُفقد هذا التفوّق ونتحرّر من تلك السطوة التي عشناها 71 عاماً؟