فجأة تصبح «إسرائيل دولة صديقة» في مناهج التعليم المصرية. تكرّ السبحة، فيتحرك «أحدهم» ضد مناهج التعليم في سوريا بحجة أنها متمسكة بالثوابت الوطنية. تتعالى الوقاحة، فيُراد للأطفال في مخيمات اللجوء أن تصبح لهم بلاد اسمها «لقطين» بدلاً من فلسطين، بحسب «حياد» وكالة «الأونروا». كل هذا وراءه أشخاص بمراتب علمية مرموقة يشتغلون ليل نهار في قلب مؤسسة تدعى «IMPACT-SE» في مدينة القدس المحتلة. العمل الجديد للمؤسسة يستهدف هذه المرة «تصويب» مناهج التعليم في الضفة وغزة والقدس على المقياس الإسرائيلي. ليست هذه مفاجأة إذا ما عُرفت هوية البروفسور الذي يقود «المهمة».ليس بالجديد سعي إسرائيل الدؤوب إلى تنشئة أجيال المنطقة العربية على عناوين «السلام» و«نبذ العنف والكراهية» و«الحدّ من التحريض على الإرهاب» وغيرها، أو اشتغالها على تخريج ملايين الأشخاص المؤمنين «بحق الشعب اليهودي في العيش بسلام على أرض إسرائيل كبقية الشعوب». لكن، كيف لها أن تقرر ماذا سيدرس الطلاب في مصر أو فلسطين أو سوريا؟ ليس الحديث هذه المرة عن مجرد معهد للأبحاث يرصد «خروقات السلام»، بل هو يقدم اقتراحات وبدائل وتوصيات، من شأنها أن تؤثر في قرارات المنظمات الدولية المعنية بالثقافة والتعليم، وعلى وجه الخصوص تلك التي بمقدورها التهديد بقطع تمويل من هنا أو سحب منحة من هُناك، كما حصل أكثر من مرة مع السلطة الفلسطينية.
المعهد الذي يجري الحديث عنه، هنا، يقع في القدس المحتلة، ويُدعى «معهد مراقبة السلام والتسامح الثقافي في التعليم المدرسي» (IMPACT-SE)، المعروف سابقاً بـ«مركز رصد تأثير السلام» (CMIP). في صفحته التعريفية، يقول إنه «منظمة إسرائيلية غير ربحية تراقب محتوى الكتب المدرسية، وتفحص المناهج الدراسية في جميع أنحاء العالم، ولا سيما في مناطق الشرق الأوسط، لتحديد ما إذا كانت المادة المُدرَّسة تتوافق مع المعايير الدولية، وما إذا كان يتم التدريس على أساس الاعتراف بالآخر وقبوله».
تعداد شهداء الانتفاضة، القرى الفلسطينية التي تقام فيها الأعراس، جدار الفصل العنصري، الاعتقالات، استهداف الطواقم الطبية، الرابط التاريخي بين الشعب الفلسطيني والأمة العربية، واقع المخيمات الفلسطينية... كل ما سبق وأكثر هو ضمن قائمة «الخروقات والمضامين التي تشجع على الإرهاب»، في دراسة مكوّنة من 57 صفحة نشرها المعهد الإسرائيلي باللغة الإنكليزية قبل عام، ويرصد فيها ما يُعتبر وفق قوانين المنظمات الدولية والأممية «تحريضاً على الإرهاب» في مناهج التعليم الفلسطينية. الدراسة أضاءت على نماذج من الدروس التي «تمجّد إرهابيين سفكوا دماء الأطفال الإسرائيليين وغيرهم من المدنيين، بالإضافة الى الدروس التي تشجّع النظرة إلى إسرائيل على أنها أرض للعرب حصرياً، فيما يتمّ الخلط بين الإسرائيليين واليهود، والتشجيع على العداء ضمن نظرة إلى العالم بعين إسلامية راديكالية، وفي بعض الأحيان، سلفية».
تعداد شهداء الانتفاضة ضمن قائمة «المضامين التي تشجع على الإرهاب»!


صحيح أن الدراسة ليست جديدة، لكنها عادت إلى الواجهة مع إعلان الاتحاد الأوروبي قبل حوالى أسبوعين أنه «باشر فتح تحقيق في هذه المناهج»، ليعود وينفي ذلك في وقت لاحق، قائلاً إنه بصدد «مراجعة وفحص الادعاءات من كلا الطرفين (الإسرائيلي والفلسطيني)». لكن، بحسب صحيفة «إسرائيل اليوم»، نقلاً عن وزيرة خارجية الاتحاد فيديريكا موغريني، فإن «الاتحاد الأوروبي سيجري مراجعة للكتب المدرسية الفلسطينية الجديدة، وذلك بعد الادعاءات التي قدمتها إحدى المنظمات غير الحكومية (المقصود IMPACT-SE الإسرائيلية)، في دراسة تقول إن الكتب الفلسطينية أكثر تطرفاً مما كانت عليه في الماضي».

تطبيع أبّاً عن جد
كل ما سبق قد لا يبدو مستغرباً، إلا إذا انضمّ من يُفترض أنه من «أهل البيت الفلسطيني» إلى مهمة تنشئة الأجيال الفلسطينية وفق المعايير الإسرائيلية. فقد أعلن «IMPACT-SE» عن «توحيد الجهود مع مؤسسة تدعى وسطية لتشجيع السلطة الفلسطينية على التخلّص من المفاهيم التحريضية والعنفية في المناهج المدرسية». وأوضحت المؤسسة أنها تتعاون مع «البروفسور محمد دجاني داوودي من مؤسسة (وسطية) الأكاديمية»، وذلك بهدف «تشجيع الوسطية في النظام التربوي الفلسطيني».
ودجاني داوودي هو بروفسور فلسطيني، عمل أستاذاً محاضراً في جامعة القدس في بلدة أبو ديس، قبل أن تفصله الجامعة بسبب مواقفه التطبيعية. وهو أيضاً «ناشط سلام»، ومؤسس حركة «وسطية» في كانون الثاني/ يناير 2007. وتهدف المؤسسة التي يديرها، بحسب التعريف عنها، إلى «الترويج للاعتدال الديني والسياسي بين الفلسطينيين، وتشجيع التعايش مع الإسرائيليين، وتعليم المحرقة اليهودية». والأخيرة كانت سبباً في فصله من الجامعة، وتعرض سيارته للحرق من قِبَل مواطنين فلسطينيين غاضبين في القدس، بعدما قاد عام 2014 مجموعة من طلاب «جامعة القدس» لزيارة «معتقل أوشفيتز» في بولندا.

الحديث عن اللاجئين الفلسطينيين يُعتبر بنظر المؤسستين تحريضاً على العنف والكراهية

دجاني داوودي لا يُعرّف عن نفسه بأنه لاجئ، على رغم أنه ولد في القدس واضطر إلى التنقل بين لبنان وسوريا وإنكلترا وميشيغان وجنوب كارولينا وتكساس والأردن. في مقابلة أجرتها معه صحيفة «هآرتس» يقول إن «جده اضطر إلى مغادرة القدس الغربية إلى الشرقية (لا يوضح السبب)»، وإن «جدته سمعت من أحد الجيران في حينه أن وكالة الأونروا توزع مؤناً وإعاشة... وعلى الفور ذهبَت إلى ممثل الوكالة، وسجّلت جميع أفراد العائلة، وعادت إلى البيت محملة بالمؤن. عندما عاد جدي غضب كثيراً، وقال إن لدينا كرامة، ومزّق بطاقات اللجوء وقال نحن لسنا لاجئين». ويضيف إنه لما عاد من الولايات المتحدة عام 1993، أراد والده اصطحابه إلى الجادة الألمانية في القدس حيث وُلد، لكنه قال لأبيه: «لا أرغب في زيارة بيتي... عليك أن تمشي نحو المستقبل لا أن تنظر إلى الخلف». ووفقاً للبروفسور، فإن السلطان العثماني، سليمان الأول، أعطى في سنة 1529مفاتيح قبر داود الملك إلى الجدّ الشيخ أحمد دجاني وورثته، ونسبةً لذلك أضيفت كلمة داوودي إلى العائلة. أما قريب محمد دجاني، ويدعى حسن، فقد قُتل على أيدي الثوار الفلسطينيين عام 1936 بسبب دعواته إلى «التعايش مع اليهود».
بالعودة إلى المشروع المشترك، فقد لحظ البروفسور، في كتيّب حديث، خمس «إشكاليات» في الكتب المدرسية الفلسطينية، وهي: «التشجيع على العنف، رسائل عنف مبطّنة، شيطنة الآخر، تبنّي العسكرة والتشدّد، واحتقار المرأة». ومن هنا، اعتبر أن «دراسة الإسلام يجب أن تركز على ترويج المفاهيم الإيجابية بدل الأهداف القومية المتطرفة ووسائل العنف، في حين تحتوي بعض النصوص في مناهج السلطة الفلسطينية على مفاهيم عسكرية عفا عليها الزمن، كالجهاد العسكري ضدّ الكفار، والتي أمست خارج سياق العالم الذي نعيش فيه اليوم».
وعلى الرغم من أن الفصل الرابع من المادة 22 من «اتفاق أوسلو 2»، عام 1995، ألزم السلطة بسقف لا يمكن تخطيه عند وضع المنهاج التعليمي، لا يزال الاحتلال الإسرائيلي يدّعي أن المنهاج الفلسطيني (الذي يعتبر دون المستوى المطلوب لناحية ترسيخ المبادئ الوطنية) «سبب أساسي في أعمال المقاومة التي لم تتوقف منذ 26 عاماً».