ليس المتدينون الإسرائيليون كتلة واحدة، بل تخترقهم انقسامات على مستويات متعددة، تُصنّفهم إلى اتجاهات وتيارات. المذهبان الرئيسان فيما بينهم: الأرثوذوكس المتزمتون والقوميون المتدينون. بحسب الأرقام والمعطيات، يتّجه الأوّلون، المعروفون بـ«الحريديم»، إلى أن يضحوا الشريحة الأكبر، قياساً بالشرائح جميعها، وهو ما يضع إسرائيل أمام جملة أسئلة وتحديات.النظرة الأولى إلى المتدينين في إسرائيل تظهر هؤلاء جمهوراً واحداً لا تمايز بين عناصره، لكنّ نظرةً أعمق تُبيّن وجود انقسامات قد يتعذّر حصرها، تصل إلى حدّ التكفير الديني. إلا أنه يمكن رصد اتجاهين دينيين أساسيين في الموقف من الصهيونية والدولة الإسرائيلية (تتفرّع منهما مذاهب وتيارات)، في تقسيم يبدو هو الأنجع في فهم هذا الواقع: الأرثوذوكسية اليهودية المتزمّتة التي تُعرف بـ«الحريديم»، وهي المعادية أو الرافضة للصهيونية، والاتجاه القومي الديني المتوافق مع الصهيونية، المعروف أيضاً بالصهيونية الدينية (داتي).
يُعدّ «الحريديم» أقلّ انفتاحاً على التغيير، وهم يفضّلون العيش في مجتمعات مغلقة، فيما يرفع المتدينون القوميون راية الاندماج في المجتمع الإسرائيلي ومع الآخر اليهودي. الخلاف الأساسي بين الجانبين يكمن في تحريم «الحريديم» الفعل الإنساني في إقامة الدولة اليهودية، ومطالبتهم بضرورة انتظار المسيح المخلّص لإقامتها. مستندهم الفقهي التوراتي في ذلك، واجب التسليم للسياق الزمني المُقرّر من الخالق لظهور المسيح، وعدم التطاول أو التعدّي على هذا الحق الإلهي في إقامة الدولة. تشترك مذاهب «الحريديم» في هذا التحريم، وإن باتت أقلّ تشدّداً مما كانت عليه في الماضي، باستثناء أقلية ترفض بتطرف الدولة الإسرائيلية. في المقابل، يرى التيار الديني القومي أن الفعل الإنساني في إقامة دولة يهودية لا يتعارض مع قصد الإرادة الإلهية في إقامة الدولة على يد المسيح المخلّص، وهو يجوّز تبعاً لذلك الدفع نحو ترتيب تنظيمي (دولة إسرائيل)، بوصفه توطئة للدولة اليهودية المقبلة في آخر الزمان.
هذا الانقسام ينعكس مواقف وفتاوى وأفعالاً. فـ«الحريديم» يرفضون ما من شأنه إعطاء الشرعية الدينية لإسرائيل، وإن كانوا يرتبطون معها باتفاق، بعدما تحوّلت إلى دولة تُعدّ الأكثر أماناً لليهود ما قبل ظهور المسيح. فمنهم، بل معظمهم، يرفضون أداء الخدمة العسكرية في الجيش، وبعضهم يحرّم الاندماج أو التوظيف في مؤسسات الدولة، بل إن حزب «يهودت هتوراه» «الحريدي» يرفض تولي منصب وزير في الحكومات، وإن كان جزءاً من الائتلاف فيها، ويكتفي في حدّ أقصى بنائب وزير، فيما تجد المسألة لدى «شاس» ــــ «الحريدي» أيضاً ــــ مخرجاً فقهياً يجوّز تولي هذا المنصب. أما المتدينون القوميون، أي المتدينون الصهاينة، فيؤدون الخدمة العسكرية انطلاقاً من كونها واجباً وضرورة، ويعملون جاهدين على التغلغل في مؤسسات الدولة، ولا يجدون حرجاً حتى في العيش والسكن جنباً إلى جنب مع العلمانيين. وهم، انطلاقاً من ذلك، يعلون من شأن الأرض، ويقدّسون مسألة «استرجاعها» من الأغيار، أي من الفلسطينيين والعرب، حتى وإن كان الثمن التضحية بدماء يهودية. وعلى هذه الخلفية، يركز أتباع هذا التيار نشاطهم وسياساتهم على تعزيز الاستيطان في الضفة والقدس المحتلتين، اللتين يرفضون التنازل عنهما أو الانسحاب منهما، الأمر الذي كان يدفعهم إلى رفض اتفاقات التسوية على اختلافها. أما التيار «الحريدي»، فيشدد على ضرورة تحرير الإنسان أولاً، ثم انتظار المسيح لـ«تحرير الأرض»، علماً أن هذا الموقف شهد تلييناً في السنوات الأخيرة لجهة قبول الاستيطان أو عدم معارضته في الحدّ الأدنى، بناءً على شبه انتفاء تهدّد الإنسان اليهودي جراءه، والقدرة على احتواء التهديدات في حال وجودها.
نسبة «الحريديم» من التعداد السكاني لليهود ستصل إلى 40% خلال عقود


لا يختلف الجانبان على «يهودية» الأرض وأولوية طرد سكانها منها والاستيلاء عليها، سواء كانت فلسطينية من النهر إلى البحر، أو عربية ما وراء ذلك، لكن الخلاف يتعلق بالتوقيت، ومنسوب التهديد الذي يرى «الحريديون» أنه وصل حدّ الصفرية أخيراً، ما مكّن الجانبين من التقارب. وهما، علاوة على ذلك، يشتركان في جزء واسع من المصالح والأهداف، فكلاهما يدفعان إلى تهويد القوانين والأنظمة، ويرفضان القوانين ذات الطابع العلماني المغاير بمجمله للتوراة وأحكامها، وإن كان «الحريديم» أكثر تشدداً في هذا الأمر من المتدينين القوميين المتفاعلين مع الآخر اليهودي وقوانينه، في مرحلة «تعذُّر التغيير» كما يرونها.
في ما يتصل بالثقل العددي لـ«الحريديم» والمتدينين الصهاينة، يشار إلى نسبة متقاربة بين 12% و 14% لكلّ من التيارين من العدد الكلي لليهود في فلسطين المحتلة. لكن التقديرات السكانية الطويلة الأجل تتنبّأ بغلبة تيار على الآخر لعوامل عدة، لا تقتصر على تباين نسبة المواليد، التي تبلغ لدى المرأة «الحريدية» 7 ولادات، فيما لا تتجاوز لدى الدينية القومية 4.2. وإذا كانت نسبة «الحريديم» من التعداد السكاني لليهود ستصل إلى 40% خلال عقود، كما تظهر توقعات «المكتب المركزي للإحصاء» لعام 2069، فإنها ستبقى تقريباً على حالها خلال المدة نفسها للمتدينين القوميين. كذلك، يتلقى نصف أبناء المتدينين القوميين علومهم في المدارس التي تتبع المنهاج الرسمي للتعليم في إسرائيل، في اختلاط واسع مع الآخر اليهودي، الأمر الذي يعني إمكانية تسرّب الأبناء وتحوّلهم إلى العلمانية بنسبة معتدّ بها، ما يعني أن شريحة المتدينين الصهاينة مقبلة على التقلص.
في الأرقام أيضاً، يتبين وفق معطيات معهد «مسكار» المختص بأبحاث القطاع الديني في إسرائيل لعام 2017، أن الفئة العمرية الأصغر لدى «الحريديم» نسبتها أعلى من الفئة العمرية الأكبر، إذ تصل الأولى (بين 20 و29 عاماً) إلى 35.7%، مقابل 24.6% لِمَن تراوح أعمارهم بين 30 و39. أما لدى المتدينين القوميين، فتكاد تكون متعادلة، وهي 22.2% للفئة العمرية ما بين 30 و39، و 22.8% لما بين 20 و29. هذا يعني أنه بعد عقود قليلة، ومع وصول نسبة «الحريديم» إلى ما يقارب 40%، ستبقى نسبة المتدينين الصهاينة على حالها ما بين 12% و 14%، أو قد تقلّ إلى ما دون ذلك.
نتيجة تعزّزها دراسة بحثية أخرى تؤكد أن الجمهور الديني القومي لا ينمو نسبةً إلى العدد الكلي لليهود، وإن كانت ولاداته أكثر من ولادات العلمانيين. الدراسة الصادرة عن منظمة «حوتام» (نيتسان ــــ جنوب فلسطين المحتلة) عاينت معطيات «المكتب المركزي للإحصاء» بين 2002 و 2012، لتخلص إلى أن نسبة المتدينين الصهاينة شبه ثابتة بلا تغيير يذكر، متحدثة عن تسرّب كبير من هذه الشريحة يصل إلى 50% باتجاه القطاعات السكانية الأخرى. لكن، هل هذا يعني نهاية مكانة المتدينين القوميين وتأثيرهم؟ الواضح أن تقلّص المكانة غير مستبعد، وإن كان التأثير سيبقى قائماً في موازاة ثقلهم العددي المتوقع أن يبقى ثابتاً نسبياً بما يزيد قليلاً على 10% من اليهود. ولجهة الحريديم، ستكون النسبة هي الأعلى قياساً بكل الفئات اليهودية بما فيها العلمانية، الأمر الذي يثير تساؤلات كثيرة عن مستقبل الكيان ومَنَعته أمام هذا التغيير.