في خلال الشهر الماضي، سُجّلت حادثة لافتة في حيّ «مئة شعاريم» في القدس المحتلة، حيث التفّ العشرات من اليهود المُتزمّتين دينياً (الحريديم) حول جندي إسرائيلي، وألقوا عليه الحجارة وردّدوا عبارات مسيئة إليه. فرّق رجال الشرطة، الذين هرعوا إلى مكان الحادثة، الحشد «الحريدي» ومنعوا التعرّض للجندي، الذي كان ذنبه ــــ وفق ما أشاع «الحريديم» لاحقاً ــــ أنه مرّ في أحيائهم مرتدياً البزة العسكرية، وقد «كان ردّ الفعل موازياً للاستفزاز» بحسبهم. تُعدّ هذه الحادثة واحدة من تجلّيات رفض الشريحة «الحريدية» أداء الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي. وهو رفض يوضع على رأس قائمة شروط الأحزاب الدينية للانضمام إلى الائتلافات الحكومية.يعود الخلاف حول تجنيد «الحريديم» إلى بدايات تأسيس الكيان. آنذاك، أدى تقاطع مصالح بين الأقلية (في حينه) اليهودية «الحريدية»، ورئيس وزراء إسرائيل الأول ووزير أمنها دافيد بن غوريون، إلى إرساء تسوية قضت بتأجيل الخدمة العسكرية لنحو 400 طالب «يشيفا» (طلاب العلوم الدينية). وهي تسوية قامت على أساسين: الأول «استعادة رجال التوراة»، بعدما انخفض ــــ في أعقاب تدمير يهود أوروبا ــــ عدد طلاب العلوم الدينية انخفاضاً كبيراً، وبالتالي، كان تأجيل الخدمة العسكرية ضرورياً لـ«إنقاذ التوراة»، في سياق تعزيز قيم الدولة الناشئة وطابعها اليهودي، واستقطاب المزيد من اليهود، وخصوصاً يهود الشرق الذين يتأثرون بموقف الحاخامات، إلى فلسطين المحتلة. أما الأساس الثاني، فهو الحاجة إلى استرضاء المتدينين، خاصة في ضوء الآراء المعادية للصهيونية لدى التيارات الدينية، ومعارضتها القوية لإقامة الدولة. ومن هنا، أدى الخوف من التمزق، والخشية من التأثير السلبي لدوائر «الحريديم» في القرارات الدولية المتعلقة بإقامة الدولة، إلى هذا الحلّ الوسط وما تبعه من تسويات.
في خلال خمس سنوات من تلك التسوية، زاد عدد من يؤخّرون الخدمة العسكرية بسرعة نسبية، حتى بلغ في عام 1953 (1250) شخصاً بعدما كان 400. في ذلك الوقت، لم يكن تأجيل الخدمة العسكرية (الإعفاء فعلياً) مرتكزاً على نص قانوني، بل على صلاحية وزير الأمن الذي كان يحق له، بحسب تقديره، استثناء من يشاء من الخدمة العسكرية. لكن في عام 1958، وبعد زيادة عدد المُعفَون كثيراً، تعالت المطالبات بتجنيد طلاب العلوم الدينية، على رغم أن وزارة الأمن آنذاك ولجنة «يشيفوت» (المدارس الدينية) توصلتا إلى اتفاقيات إضافية في شأن تمديد فترة تأجيل الخدمة، لا الحدّ منها، وتحديداً لمن يصرّح بأنه يرغب في مواصلة دراسة التوراة.
لم يتردّد حزب «شاس» في التخويف من «حرب أهلية» على خلفية قضية تجنيد «الحريديم»


في أواخر سبعينيات القرن الماضي، أدى التغيير في القوس السياسي في إسرائيل إلى ولادة تسهيلات إضافية للأحزاب «الحريدية»؛ إذ تقرر إلغاء الحصص السنوية للمُعفَون من الخدمة العسكرية، التي كان قد أقرّها وزير الأمن السابق موشيه ديان عام 1968، لتصبح بلا حدّ عددي، فيما أُدرجت ضمن الإعفاء قطاعات «حريدية» أخرى من غير طلاب العلوم الدينية. قرارات كان لها الدور الأكبر، من بين عوامل أخرى، في التغييرات الاجتماعية والاقتصادية بعيدة المدى في مجتمع «الحريديم»، ولا سيما في ما يتعلق بأنماط عمل رجالهم، الذين لم يُسمح لهم ــــ بموجب القرارات الجديدة ــــ بالعمل في حال إعفائهم من الخدمة العسكرية، لتقتصر وظيفتهم على دراسة التوراة. واقع أدى إلى انعزال «الحريديم» عن الأغلبية العلمانية، وتوسّع الفجوة بينهم وبينها، وبالتالي تعميق الخلافات داخل إسرائيل.
منذ نهاية الثمانينيات، تزايدت الضغوط السياسية والقانونية في اتجاه تكريس ترتيب تأجيل الخدمة، في مقابل توصيات واقتراحات معاكسة تصدر من هنا وهناك، من دون أن تجد سبيلها إلى التنفيذ بفعل شروط الائتلافات مع الأحزاب الدينية، التي كانت تطالب بتأجيل تنفيذ تلك الاقتراحات، أو تفريغها من مضمونها عملياً، أو حتى إلغائها. وفي هذا الإطار، تبدو مفيدة العودة إلى ردّ وزير الأمن حينها، إسحاق رابين، على التماس لدى المحكمة العليا يطالب بإلغاء الترتيبات الحكومية مع الأحزاب الدينية. إذ أورد رابين أسباب الإعفاء على النحو الآتي:
أولاً: الحفاظ على قيمة دراسة التوراة وعلى استمراريتها.
ثانياً: الصعوبات في التكيّف الاجتماعي والثقافي للرجال «الحريديم» مع الإطار العسكري، والصعوبة التي تواجه الجيش الإسرائيلي في تزويد هؤلاء الجنود بشروط الخدمة المناسبة.
ثالثاً: الخوف من انخفاض مساهمة جنود «الحريديم» في الفاعلية والنظام العسكريَّين بسبب طريقة حياتهم الخاصة.
رابعاً: إدراك الجيش الإسرائيلي الحساسية السياسية والأيديولوجية لهذه القضية لدى «الحريديم».
تشير الأسباب المتقدمة إلى أن الجيش الإسرائيلي لا يرى أملاً في إمكانية تجنيد «الحريديم» لأسباب عدة، من بينها محدودية قدرته على تنظيم المجنّدين منهم، ودافعيتهم القتالية المحدودة نتيجة الموقف الديني من الجيش والدولة. مع ذلك بقيت القضية تتفاعل، إلى أن سنحت الفرصة للعلمانيين لسنّ قانون تجنيد «الحريديم» إبان عهد حكومة بنيامين نتنياهو ما قبل الأخيرة (ما بين عامي 2013 و2015)، والتي خلت من الأحزاب الدينية، قبل أن يعاد إلغاء القانون المذكور فور عودة تلك الأحزاب إلى الحكومة.
بناءً على ما تقدم، يُطرح سؤال عن حقيقة عجز الدولة الإسرائيلية المسيطَر عليها من قِبَل العلمانيين عن فرض إرادتها على «الحريديم»، إلى جانب سؤال آخر لا يقلّ أهمية عن السبب الحقيقي لرفض «الحريديم» التحاق أبنائهم بالمؤسسة العسكرية؟ يخشى الجمهور «الحريدي» على أبنائه من احتمال التحول عن التديّن، بفعل «بوتقة الصهر» القوية في صفوف الجيش، إن لم يكن باتجاه العلمانية، فباتجاه التشكيك في قناعات هي من المسلّمات، وهو ما من شأنه «إفساد» المجتمع «الحريدي». لا يمكن، بخلاف ذلك، فهم الإصرار على رفض التجنيد، خصوصاً أن المخرج الفقهي لهذه المسألة ممكن، كما هو الحال في معظم المسائل المتصلة بالعلاقة مع الدولة، كتولي مسؤوليات في المؤسسات والحكومات. في المقابل، لا يبدو أن الجيش الإسرائيلي معنيّ هو الآخر بتجنيد «الحريديم»، الذين سيشكلون مصدر تهديد للانتظام والالتزام العسكريين، خصوصاً أن مرجعيتهم واجبة الطاعة تبقى خارج الجيش، في المعاهد الدينية ولدى الحاخامات. كذلك، يخشى الجيش تلك الهوية الجامعة والمغايرة في صفوفه، التي يمكن أن تفرض انقساماً حادّاً في مكوناته، ولا سيما أن لـ«الحريديم» متطلبات لا تستطيع المؤسسة العسكرية تلبيتها.
عقب فشل تشكيل حكومة نتنياهو الخامسة، لم يتردّد حزب «شاس» «الحريدي» في التخويف من «حرب أهلية» على خلفية قضية تجنيد «الحريديم»، التي رفع لواءها رئيس حزب «إسرائيل بيتنا»، أفيغدور ليبرمان، إذ قال في بيان: «لسوء الحظ، لا يتحدث ليبرمان عن الحقيقة، ويستخدم القانون ذريعةً لإسقاط الحكومة اليمينية... ندعوه إلى إظهار المسؤولية، حتى لو كانت هناك اختلافات في الرأي بينك وبين رئيس الوزراء (بنيامين نتنياهو)، فلا تجرّ إسرائيل إلى حرب أهلية» (القناة السابعة العبرية 27/05/2019). تصريح يؤكد أن هذه الأزمة لن تجد لها حلاً، وهو ما يطرح تساؤلات كثيرة عن الجيش الإسرائيلي الذي يُصطلح عليه بـ«جيش الشعب»، إذ بات عملياً جيش جزء من هذا الشعب، وهو جزء يتقلص يوماً بعد يوم، بما يصل إلى حدّ التهديد الفعلي، الذي بات نتيجة التوازنات، متعذراً على التدارك.



70% من الحريديم معفَون من التجنيد
في تقرير استحصل كاتبه على معطيات من الجيش الإسرائيلي (صحيفة «كالكاليست» الاقتصادية، 19/03/2018)، يتبين أن عدد طلاب العلوم الدينية الذين حصلوا على تأجيل الخدمة بلغ 37200 طالب في نهاية عام 2017، بزيادة قدرها 43٪ عن عام 2016، حيث بلغ 26000. وهذا يعني أن 11800 مطالَب بالخدمة انضمّ إلى ترتيب التأجيل عام 2017، إلى جانب عشرات الآلاف الذين جددوا تصاريح التأجيل التي استحصلوا عليها في السنوات التي سبقت. إلا أن هذا التأجيل ليس تأجيلاً تماماً، إذ إنه يُمكّن الشباب «الحريدي» من مواصلة الدراسة في المعاهد الدينية من دون التجنّد في نهاية المطاف، على اعتبار أنه بمجرد بلوغهم سنّ 24 يحصلون على إعفاء كامل من الخدمة العسكرية، ما يعني أن نحو 70٪ منهم يصلون إلى سنّ الإعفاء، من دون أي شكل من أشكال التجنيد.