طهران | قبل نحو أسبوع من الموعد (7 تموز الجاري) الذي أعلنته إيران لاتخاذ الخطوة الثانية لخفض التزاماتها في الاتفاق النووي، أعلنت أوروبا وضع آلية التبادل المالي مع إيران (إنستكس) موضع التنفيذ. لكن هل الإجراء قادر على تحفيز إيران على البقاء في الاتفاق؟ وهل تستطيع «إنستكس» معالجة المشاكل الناجمة عن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق وإعادة فرض العقوبات؟في أعقاب إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران في 8 أيار 2018، وعدت أوروبا، في خطوة لإقناع إيران بالبقاء في الاتفاق، بإيجاد آلية مالية خاصة تكفل المزيد من التجارة مع إيران. أُرجئ إيجاد هذه الآلية مراراً إلى أن أعلنت كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا في 31 كانون الثاني 2019 أنها وضعت هذه الآلية بهدف تسهيل «التجارة القانونية» بين إيران والشركات الأوروبية. وأطلقت عليها اسم أداة دعم التبادل التجاري (Instrument for supporting trade exchanges).
كان مقرّراً أن تعمل «إنستكس» كمؤسسة وسيطة تستطيع إيران من خلالها الاحتفاظ بالعوائد المتأتية من صادراتها إلى أوروبا على شكل قيمة ائتمانية لدى هذه المؤسسة والاستفادة من هذا الائتمان عند الضرورة للشراء من الشركات الأوروبية. لكن الوعد الأوروبي في ما يخص تشغيل هذه القناة المالية لم يرَ النور حتى بعد أشهر من تسجيلها. وإيران التي كانت قد راهنت على الوعود الأوروبية لنحو سنة، وكانت لا تزال تعتبر نفسها ملتزمة الاتفاق النووي، ارتأت قبل نحو شهرين مراجعة هذه السياسة. وفي 8 أيار من هذا العام، وفي الذكرى السنوية لانسحاب أميركا من الاتفاق، أعلن الرئيس الإيراني، حسن روحاني، مستنداً إلى البندين 26 و 36 من الاتفاق النووي، اتخاذ إيران لخطوة عملية لجهة خفض التزاماتها بهدف الضغط على الأطراف الأخرى للوفاء بتعهداتها. وكان هذا الإجراء الإيراني بمنزلة خطوة مهمة وعملية لتذكير الأطراف الأخرى، ولا سيما الأوروبيين، بأنه يجب عليهم الوفاء بالتزاماتهم تجاه الاتفاق.
وحسب إعلان الرئيس روحاني، ستمتنع إيران عن بيع الفائض عن 300 كلغ من المواد المخصبة (التي كانت تتسلم إزاءها الكعكة الصفراء) وكذلك بيع الفائض عن 130 طناً من مائها الثقيل. إن هذا الإحجام عن البيع أعلن للجانب الأوروبي خلال إنذار مدته 60 يوماً، ليهتم هؤلاء بتنفيذ واجباتهم وتعويض الخسائر الناتجة من انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، الإنذار الذي رفضته الدول الأوروبية منذ اليوم الأول.
بلا شراء النفط أو فتح خط ائتماني لن يكون لطهران رصيد مالي في أوروبا


وتكون إيران، في ضوء اتخاذ هذا القرار، قد وضعت الدول الأوروبية الخمس أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تفي بتعهداتها وتلبي شروط إيران بالعودة إلى بيع النفط على ما كان عليه قبل العقوبات وتنفيذ التبادل المالي والمصرفي الدولي، وعندها ستكون إيران قد عادت إلى ظروف ما قبل 8 أيار 2019. وبغير ذلك، ستُتَّخَذ الخطوة الثانية باتجاه المزيد من تقليص التعهدات الإيرانية بما يشمل تخطي مستوى التخصيب بنسبة 3.67 % (تأسيساً على التزامات الاتفاق النووي) وكذلك اتخاذ إيران القرار لإعادة مفاعل أراك للماء الثقيل إلى حالته التي كانت عليه قبل الاتفاق.
وقد دفع الإنذار الإيراني بخفض الالتزامات الأطراف الأوروبية إلى المزيد من التحرك لإقناع إيران بالتخلي عن قرارها هذا. وزار بعض الدبلوماسيين الأوروبيين إيران ودعوها إلى مراجعة هذا القرار. وبالتزامن، فإن بعض التطورات بما فيه إسقاط طائرة التجسس الأميركية من دون طيار، أظهرت دافع طهران وجديتها للخروج من الضيق الاستراتيجي واتخاذ موقف تفاعلي.
وقبل ثمانية أيام من انتهاء المهلة التي حددتها إيران، أعلنت الأطراف الأوروبية الجمعة الماضي، بعد الاجتماع المشترك للجنة الاتفاق النووي في فيينا، أنّ «إنستكس» وُضع موضع التنفيذ. رداً على ذلك، رأى نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، الاجتماع الأخير للجنة الاتفاق النووي أنه بنّاء، لكنه رأى أن الخطوة الأوروبية «غير كافية». وأضاف أن بلاده ستدرس الإجراءات التي اتخذت كخطوة إلى الأمام في اللجنة بصورة كاملة «وسأنقلها إلى طهران على أن يتخذ القرار النهائي في طهران».
من غير الواضح بعد ما إذا كانت «إنستكس» ستستخدم كما قال الأوروبيون سابقاً لتبادل الغذاء والدواء والبضائغ التي لا تشملها العقوبات، أم كما تريده إيران: تغطية البضائع المشمولة بالعقوبات الأميركية بما فيها النفط. وفق مصدر دبلوماسي مطلع في طهران، طلب عدم الإفصاح عن اسمه تحدّث إلى «الأخبار»، إن لم تغط «إنستكس» مبيعات النفط الإيراني إلى أوروبا أو اعتماد خط ائتماني لإيران لشراء البضائع التي تريدها، فإن هذه الآلية لن تحظى بقبول إيران.
وذكّر بأن الأوروبيين كانوا قد أعلنوا في وقت سابق أنهم غير قادرين على شراء الخام الإيراني بسبب العقوبات الأميركية، وبذلك فإن لم تشترِ أوروبا النفط من إيران، ولا هي فتحت خطاً ائتمانياً، فإن طهران لن يكون لديها رصيد مالي في أوروبا على أرض الواقع لكي تنقله من طريق هذه الآلية المالية. وحسب المصدر، فإن الإجراء الأوروبي الأخير «يتسم بطابع سياسي لا أكثر، وآفاق أدائه الاقتصادي غير شفافة كما يجب». وتابع المصدر: «تشغيل إنستكس ليس مهماً بمفرده بالنسبة إلى إيران، فالمهم هو ماهية هذه الآلية ومحتواها، وهل تنطوي على أداء مؤثر بالنسبة إلى إيران لاحتواء العقوبات الأميركية». وزاد: «إن لم تتمكن إنستكس من تلبية مطالب إيران، فإن الأخيرة ستواصل عملية خفض تعهداتها في الاتفاق النووي».
يبدو أن الأوروبيين، بدلاً من تلبية مطالب إيران الرئيسية في ما يخصّ الوفاء بالتزاماتهم والتعويض عن الخسائر الناجمة عن الانسحاب الأميركي، يحاولون إظهار أن إجراءات مثل تشغيل وتطبيق القناة المالية تمثل خطوة عملية عسى أن تغض إيران النظر عن مهلتها التي حددتها. ولم تفصح المصادر الأوروبية عن حجم التجارة التي من المقرّر أن تُجرى من طريق «إنستكس»، بيد أن «وول ستريت جورنال» تحدثت قبل أيام عن ضخّ ملايين قليلة من الدولارات لهذه الآلية، المبلغ الذي يعد لا شيء تقريباً مقارنة بالمبادلات المتوقع أن تصل إلى عدة مليارات من الدولارات.
وثمة خياران مرجحان بما يخص ردّ فعل إيران في الأيام المقبلة إزاء تشغيل «إنستكس»: الأول، أن ترفض إيران هذا الإجراء الأوروبي جملة وتفصيلاً وتعدّه غير كافٍ وتواصل عملية خفض التزاماتها في الاتفاق النووي بعد انتهاء مهلة الـ 60 يوماً. أو أن تقوم، كخيار ثانٍ، بتمديد مهلتها المعلنة لفترة محددة، عسى أن تتضح ملامح الآلية ومدى تلبية مطالبها.